د. سلوى بزاحي: قلبي يتوق الى ايثاكا

د. سلوى بزاحي: قلبي يتوق الى ايثاكا

 

د. سلوى بزاحي
خاصمني النوم بعد ان اجتاحت سفينتي عواصف حنين جارف فغادرت مضجعي متسللة الى غرفة الضيوف خفية حتى لا يستيقظ أهل بيتي، ملت برأسي على كتفي كي أسندني وغرقت في نحيب طويل مرير خنقته قبضة العقل المتربص عند عتبة قلبي ،صاح الحارس بي وقد وضع سيفه على عنقي مهددا “اصمتي أيتها الضعيفة المتهاوية لن أتردد في غرس سيفي في عنقك ان فكرت بالهمس بما يختلج في قلبك، قومي الى فراشك ودعي عنك جنون الأدباء وشطط الشعراء لقد أنذرتك منذ خمس سنوات بعد أن ردت الكورونا  اليك بصرك بأنني سأقتلع قلبك من ضلوعك وأطعمه لكلاب الطرق ان سكنت ديار  الجنون واتخذت الفن صنعة والكتابة نفسا”.
رفعت رأسي فرأيته فارسا من ليل عات ممتطيا جواد من زبد العاصفة مغمورا بملح المحيط وسخام الغدر ،درعه قشر الأعاصير أما عيناه فشقان من عتمة لم تبصر النور   قط، سل سيفه القاتل كغربتي كيف لا وقد صنع من دماء مسافرين   هلكوا على قارعة طريق التيه ولم يعودوا أبدا، أما رداؤه فقد كان مبللا بدموع شباب هرموا على أمل لقاء أحبتهم لكنهم ووروا الثرى في زوايا منسية وقد خط القدر على شواهد قبورهم عبارة “هؤلاء فتية غادروا على أمل اللقاء لكنهم صلبوا على مذابح الغرباء ” جثوت أمامه كطير جريح دون أن يهتز عنقي وقد انتفض قلبي بين جنباته محتميا بذرع حنيني  قائلا ” لا يهزنك هذا مراده أثبتي مكانك فهنالك في مكان بعيد أم وبيت وذكريات ترقبك مع كل طلة شمس وعند كل غروب، لا يخيفنك فهنالك في زاوية صغيرة في مقبرة موحشة فتى صغيرا ينتظر اكليل ورود وضمة ذلك قبر والدك الذي لم تزوريه منذ سنوات، لا تجزعي من سيفه المسلط على جيدك   أيتها الروح الهائمة فقد ان أوان عودتك الى ايثاكا.
فجأة سمعت عزفا خفيا على قيثارة سحرية لم أرها لكنني عرفتها من سحر عزفها كانت تلك قيثارة “أورفيوس” عزف عليها فسحر الصخور والأشجار والحيوانات والقلوب، لم يكن العزف يصدر عن وتر  ولا انس ولا جان بل من بركان قلبي المشتعل حنينا، من وتر سري بين أضلعي وبين ضفائر  أمي، وفي هدأة تلك اللحظة المسكونة بالخوف همس لي القدر لا كعدو بل كأبٍ حكيم “لا تنجرفي يا ابنة الحنين أعلم أن الرحلة طالت وأن النفس تاقت، عشرون عاما مرت على سفرك عشون عاما من الحروب الدامية والطعنات المخزية والقصائد المكتوبة بدموع مخفية ودماء سخية واهات مسبية في أقبية سرية، لكن
ليس الآن لم يئن موعد العودة بعد لكن اعلمي أنه ما من ناموس ولا شريعة تمنع قلبا من السفر، حلقي طيري بعيدا أرسلي تحياتك الى أمك المترقبة عند باب منزلكم”
تحياتي ما لأمي ترسل التحيات ؟؟؟؟؟ما لزهية تبعث السلامات ولا الباقات لا والله ،فأمي سلام مسكن تحية مشرقة وورد متفتح، أي سلام وأي تحية وأي ورد تلك هدايا بشرية رخيصة أستحي أن أرسلها الى أمي أيها القدر، حينها وقفت وقد أحسست بأنها تقف أمامي مبتسمة كعادتها كملاك مشرق فاتحة ذراعيها حدقت بي مبتسمة وقالت “تعالي يا رنا عجلي بالدخول فالجو بارد أدخلي فقد أعددت لك حساء ساخنا واسفنج مع قهوة”، فقلت وقد التهبت مشاعري واحترق قلبي “أيا أمي أنا البنت التي غابت وفي أعماقها ذابت أهازيج وأصوات وأسرار حكايات، أيا أمي أنا البنت التي سارت طريقا شائكا وعرا  على أكتافها حملت جرابا خطته عمرا من قماش صبرك وخيط حنانك على ضوء خافت في ليالي الشتاء الباردة فلم تتململي ولم تشتكي أبدا.
 أذكر أنك منذ عشرين سنة عبئت جرابي بخلطة سحرية كانت زادي وزوادي أجل لا أزال أراكي وأنت تعبئين جرابي بأدعية مرفرفة لرب عارف عالم وقد رددت دعوتك في سرك وجهرك “جعلك الله مثل الرمانية يا رنا دايما مليانة”،وضعت في زوادتي رائحة مولوخيتك العالقة في خياشيم أنفي، وصوت دافئ عذب  يردد أية الكرسي، وضعت نور طلعتك وقد أشرقت يا أمي بضوء قيامك الليل، أذكر أنني عندما أبحرت فتحت جرابي يا أمي  وجدت عمرك الغادي رأيت سنين شبابك التي ولت، سمعت غناءك أمي لمست قلبك الصافي كتحفة أثرية من الكريستال الشفاف، وأقسم دون مبالغة أنني لم أقابل في حياتي شخصا يحمل بياض قلبك ولا صفاء سريرتك يا زهية، أقسم بأنك أطهر قلب في زمن يتفاخر فيه البشر بسواد القلوب وقصف الجبهات ورد الصاع صاعات، أيها المسافرون يا قوافل المغتربين من مثلي من وضعت أمه قلبها في جراب سفره لا تكذبوا ولا تتحادقوا فلم يصنع أحد صنيع أمي.
ملأت أمي زوادتي بشبابها وقوتها وصبرها وعطائها في سنوات كبوتها ولم تطمع في شيء الا  أن ينادى على رؤوس الخلائق يوم القيامة أدخلي أم اليتامى جنة الفردوس جزاء لما صنعت، فكيف تريدني أيها القدر أن أرسل سلامات الى امرأة وضعت قلبها في جراب أحمله على كتفي منذ عشرين سنة، لا والله ما هانت زهية ولن تهون، أما أنت يا حبيبتي وملاذي يا راحتي وعذابي يا حمامة القران الكريم، فاغفري وقاحتي لأنني لا أملك غير  أنفاسي أرسلها لك في ظلمة هذا الليل، سامحيني فليس عندي الا روحي أطلقها مع أول نسمةِ فجر لتصل اليك وأنت ساجدة في صلاة الصبح ، سلامات وأحضان الى حيطان منزلنا، الى حي عرفناه وتهنا اذ أضعناه، سلامات الى أشجار  حديقتنا تنوح وتبكي غربتنا، سلامات الى السطح الذي غنى لجمعتنا ،وصالون شريناه بآمال ليحكي شعار وحدتنا، سلامات  لزليج مطبخنا، لرائحة معرشة تقص ثراء رحلتنا، سلامات الى مثل رضعناها وأخلاق ورثاها وأحلام بنيناها فمتنا في زواياها، سلامات الى  أحلامنا الحلوة الى ضحكاتنا تعلو الى أيد شبكناها  وأيام خبرناها، سلامات لأرواح عشقناها  فخلف عشقها عاهة، أيا أمي أنا البنت التي احترقت بغربتها ولم تقدر على إطفاء حرقتها، فان مت فاكتبوا على شاهد قبري “هذا  قبر صبية عشقت أمها و ذادت عن كرامتها فماتت في محبتها  “.
الى أمي زهية بودبوز