طه درويش: عَنِ المَكانِ الّذي حينَ تُغادِرهُ.. تَبْيَضُّ عَيْناكَ عَلَيْهِ مِنَ الحُزْنِ

طه درويش
المنزل/ المَكان.. المَكان/ المَنْزِل!
ثَمّةَ عُقودٌ من هذا الزّمان.. بِسنواتِها العِجاف.. وثَمّة “منازِل” يكسوها الغُبار.. تراها.. الّلحظة.. تَنْثِقُ مِنْ ذاكرتكَ كَومْضَة.. وَتَباغتكَ مِثل “طعنَة”!
عُقودٌ لا تستطيع.. أو لا تُريد.. لها عدّاً.. وَمنازِل تستطيع لها عدّاً.. عشرةُ منازل.. عَبَرتَها ذاتَ أزمِنَةٍ انقَضَت.. في أكثر مِنْ بَلْدَةٍ.. ومدينةٍ.. وَدَوْلَة.. فصارت مِنْكَ.. وَلَمْ تَكُنْ يَوْماً مِنْها.. وَكما دَخَلْتَها أوّل مرّة.. غادَرتَها وغادَرَتْكَ مِنْ غيرِ عَوْدَة.. غادَرْتَها وَحيداً كَما جِئتها.. من دون “دَمْعٍ” ولا “مُوَدّع”!
تأتي المَنْزِلَ/المَكان مُحايِداً.. بارِداً.. لَم تَأتِهِ يَوْماً مَدفوعاً بِحُبٍّ أوْ مُهَروِلاً صَوْبَهَ بِحَنينْ. تأتيهِ مَدفوعاً بِالحاجَةِ إلى سَقْفٍ يَأويكْ.. وأرضٍ تحويك.. وَجدران تقيك.. لَمْ تَأتِهِ يَوْماً على أَجنِحَةِ الشّوْقِ.. لَمْ تَأتِهِ يَوْماً عابِراً إليهِ بِعَرَباتٍ مِنْ شَوْقٍ أوْ حَنين.
المنزل/المَكان.. المَكان/ المَنْزِل!
كَمْ نادَيْتَ.. وَكَمْ مِنْ أعماقِكَ صَرَخْتَ “أريدُ المَكانْ”.
المَكانُ الّذي لَكَ وَحدَك.. في بُقعَةٍ مِنْ هذا الكَوْنِ لَكَ وَحدَك.. تَقْذِف فيه روحَكَ وحدَك.. وَتَزرع في تضاريسه قَلْبَكَ وَحدَك. المَكان الّذي يقولُ لَكَ “خُذني إلَيْكْ”.. كَيْ أكونَ لَكَ وحدَكَ ملاذكَ.. أوْ عُزلَتكَ.. أو مَوْتكَ.. أوْ مَنفاكَ.. أوْ وَطَنكْ!
المَكان الّذي بِقَلْبٍ مِنْ حنينٍ.. تَزْرَع فيه فُؤادَكَ وحدَكَ.. تَغرس في جدرانه “مساميركَ” وحدَكَ.. وَتُعلّق عليها صوَرَكَ وَحدَكَ.. أوْ لوحاتكَ.. أوْ بعضاً مِنْ صور الّذينَ تُحبّهم و.. “رحلوا” وَتَركوكَ وَحدَكْ!
المكان الّذي “يُخَرْبِشُ” أطفالكَ كلماتهم.. ضحكاتهم.. أحرفهم.. أحلامهم.. على جُدرانِهِ.. كَيْ تَبْقى.. كَيْ لا تَرحَل وتَترُكها لِغُرباء مِنْ بَعدِكْ!
المنزل/المَكان.. المَكان/ المَنْزِل!
كَمْ صرَخْتَ وَتصرُخ: لا شيء يُغنيكَ.. أو يُثريكَ.. أوْ يشفيكَ سوى “المَكان”.. المَكان المغروس في وَطنك.. المكان المزروع في قلبك.. المَكان الّذي حينَ تُغادِرهُ.. تَبْيَضُّ عِيْناكَ عليه مِنَ الحُزْنِ.. ويشيبُ في أعماقِكَ القلبْ.. وتَذبل مِنْكَ الرّوح!
المَكان الّذي هو فرحتك.. وسيكونُ قبركَ في آنْ!
كاتب وأكاديمي أردني