خالد الهواري: الاناشيد المتوحشة

خالد الهواري
هذا الوجود الغائب الذي كان يعرفه الجميع ،لكن لم يعترف به احد يريد، من يريد ان يجد نفسه وجها لوجه مع الموت الذي ظل يتكرر باشكاله الكلاسيكية طيلة سنوات من الضياع في التية العظيم منزوع الهوية والانتماء بدون فائدة ، قد تشكل في ليلة استيقظت فيها الناس من سبات متواصل حتي اصبح عادة متعارف عليها علي نسمة رقيقة دافئة، ليلة اختزلت تاريخ من الحكايات قبل ان ينتهي زمن الابدية المتوارث الرهيب علي نافذة شرفة بيت قديم لم تفتح منذ سنوات منذ رحيل الاب الي المجهول في صندوق عربة عسكرية هبطت منها ارتال الجنود ومعهم كلاب حراستهم، علي وجه طفلة رسمت بالوان القلم الملون صورة العلم علي كفيها الصغيرتين، وقفت علي اطراف اصابعها فوق مقعد بجوار النافذة تنظر الي الطريق تبحث عن من يبشرها بعودة الراحل الذي لا تتذكر ملامحه منذ ان اخبروها انه سافر ليجلب لها ملابس العيد الجديدة، الفرح الذي جاء يعلوه الخجل قد اعاد الامل الي صحن البيت متجاوزا الفراغ الابدي برغباته الجامحة، كنا نعرفه حق المعرفة في احتفالات الوطن برفع الاعلام والبيارق، والالعاب النارية التي تضئ السماء، في الامسيات الدينية في المساجد، ورائحة الشموع المعطرة في الكنائس، والندوات الثقافية في المسارح، والباعة الذين يوزعون الحلوي علي المارين في الطريق مجانا، وصوت ضجيج العمال منذ الصباح الباكر وهم يغسلون التماثيل التي تراقب الجميع في الشوارع، والميادين والاسواق، ووساءل المواصلات والمقاهي، في الافراح ، والنكبات هو الغائب الحاضر، نعرفه في صفحات الجرائد التي كانت تروي عنه الامجاد والانتصارات، والاساطير التي لم نسمع عنها نحن اولاد الكلب ناكرين الجميل في ذكري ميلاده وزواجه، وذكري رحيل الفاتح العظيم الذي ترك له البلد ليواصل مسيرة الفتح العظيم بملابسه الرسمية في اشلاءنا، نعرفه في الجموع من عمال المصانع وتلاميذ المدارس التي كانت تقف تحت الشمس لتدق الطبول عشرات المرات علي شرف ظهور القائد الذي يتحدي العالم، كان يقف مزهوا منفوش الريش بقامته الطويلة، وجسده النحيف يستقبل الوافدين بابتسامة عريضة امام عدسات الاعلام، الجميع ينحي امامه، تحلم به العذاري في احلامهن الشبقة، تداعب رجولته خيال الارامل والعوانس ،فهو فرع من شجرة النسل المقدسة، محارب لم يعرف الحرب غير من قراءة الجرائد ومشاهدة نشرات الاخبار، صوته الناعم الذي يعلوا علي صوت ضجيج الموت وصرخات المسلوخين في السجون لايتشابه مع احد، لكنه في هذه الليلة لم يكون موجودا هناك، قد غادر القصر منذ ساعات قليلة، وترك خلفه كل الاشياء التي كانت في حياتنا تتشابه مع القصص القديمة عن الذين هبطوا من السماء الي الارض التي ترويها العرافات، لم نكن نحتاج الي خلع الابواب المصفحة التي كانت تنخلع قلوبنا من صدورنا لمجرد تخيلها، هذا القصر الذي دخلنا اليه بدون تردد، او لحظة تفكير وتوقف، لم يكن مثل القصور الاخري التي سمعنا عنها،لذلك خيل الينا من رهبة قوة الاضاءة، ورائحة الورود ،واقفاص الطيور التي تملئ المكان،والاقواس الرخامية المذهبة ان الزمن قد توقف، وانتقلنا الي عالم اخر، صوره كانت مبعثره علي ارض مكتبة في الدور الثاني، ذكرياته، اوسمته، ملابسه الداخلية، مراحل طفولته، حتي غرفة نومه الخاصة، كل شئ في حياته كانت تدوسه الاقدام، لم يجرؤ احد علي تصديق هروبه، البعض كانوا يبحثون عنه بدون توقف خلف الابواب المغطاة بستائر المخمل، تحت السجاجيد الفارسية الحمراء التي تغطي السلالم ،خلف اللوحات الكبيرة التي تمثل معارك تاريخية تمزقت، وبين اواني المطبخ ، هل يكون قد صعد الي السماء ليجلس بجوار ابيه؟ هل غاب مثل الائمة في سرداب ؟
او ربما يجلس يرسم الخطة الجديدة للحرب التي لم تحدث في غرفة الحرس التي كانت تستغل مساحة واسعة من الحديقة الخلفية للقصر، واصبحت الان حظيرة خاوية علي عروشها بعد ان هرب الحراس بملابس النوم تاركين اسلحتهم علي الارض، ربما يجلس قابعا في براءه ببدلته الرمادية الخالية من الاوسمة داخل قاعة الاجتماعات التي كان يستقبل في داخلها حلفاءه اصحاب الشعور الصفراء ليحددون لنا مصير الوطن ،مثل هذا البطل حامل لواء المعذبين في الارض لايهرب ،فهو لم يتعرض في حياته لمحاولة اغتيال واحدة، كان يشعر بالاطمئنان وهو يمر بسيارته الفارهه يقرأ الشعارات ، يتأمل الجدران التي صبغت بالالوان الحمراء والبيضاء لتخفي من خلفها اوجاع الوطن ،وكان الحراس والشبيحة يهرعون في الشوارع والازقة يسوقون الناس ليشيرون الي سيارته التي تقطع الطريق في بلد المقابر.
كاتب مصري/ السويد