عزالدين مصطفى جلولي: من حقوق الأمة في زمن الظلم

عزالدين مصطفى جلولي: من حقوق الأمة في زمن الظلم

عزالدين مصطفى جلولي

خصوصياتنا
الأكثرية الصامتة هي أكثر الشرائح متاجرة بأغلبيتها، من الإمبريالية أو ممن يناهضها، والعجيب أن تكون هي صاحبة الكلمة الفصل في أية استحقاقات انتخابية، لذلك يتحايل على حقها في الترجيح في جل المناسبات. إنها ليست معنية كثيرا بالجدل السياسي، لأنها تتوزع على سور المجتمع من كافة النواحي، وليست السياسة في حسها إلا ثغرا من تلكم الثغور. ثم إن الغزاة المحتلين كما أغلب الجماعات المتطرفة تصطدم مع البنية الصلبة لهذه الأكثرية فتتلاشى مشاريعها المزعجة رغم كونها تبدو مسيطرة في مرحلة ما. البنية الصلبة للأكثرية في بلداننا المسلمة أحق بتسليط التحليل الاجتماعي من المنظور الإسلامي لاستكناه حقيقتها.
من يسعى بالإسلام لإصلاح السياسة لا يليق به إلا أن يحافظ على طهارته ولو خسر هنا أو هناك. للإسلاميين عموما سلبية فكرية في تقمص العمل السياسي بالطعوم الغربية، فالبراغماتية والتموقع في المولاة أو في المعارضة والحزبية الضيقة والولوغ في متاهات الحسابات السياسية ولو كان قبولا بالتطبيع… وما إلى ذلك من محطات كان هؤلاء في غنى عن مقارفتها لو أنهم اتخذوا مواقف مبدئية وتخلوا عن مكاسب مرحلية. إن سلوك جماعة العدل والإحسان المغربية في هذا البحر الخضم يستحق أن يقرأ ويستلهم.
الاستكانة إلى القول بأننا ضعفاء وللعدو اليد العليا في صياغة مصائرنا مرض نفسي عضال، نفعل به في أنفسنا أكثر مما يفعله الأعداء فينا. إنك عندما تدرس حركات التحرر تجدها دوما كانت الأضعف، ولكنها وظفت ما لديدها من قوة قليلة غلبت بها قوة كبيرة، ونزداد نحن المسلمين بسلاح الإيمان وبوعد الله القاطع في التمكين إذا نحن حققنا ما نستطيع من شروط يريدها المولى تبارك وتعالى منا.
الحديث عن العلل وأدويتها بعيدا عن بنية المريض المشوهة تسطيح لظاهرة الدولة العربية الحديثة، التي لم تجتمع قبائلها على دعوة صحيحة من وحي رباني، بل على مصلحة ذاتية جعلت الدولة في خدمة العصبية، بمعنى آخر، كان بإمكان القبيلة أو الطائفة ومن حالفها على بناء الدولة أن تكون نعم الرافعة لهذه الدولة لو أنها قامت خادمة للحق الذي أنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم) وشريعته السمحة، إذن لبنت هذه الدول حضارة كما حدث في التاريخ مع الأمويين والعباسيين.
الغرب عزز المنهج التجريبي الذي تعلمه من الأندلس وأنجز ما أنجزه بفضلها، ولكنه يفتقد إلى الإيمان، لذلك تراه يبني حضارة ثم يهدمها ثلاث مرات في قرن واحد. أما المجالات المعرفية غير الخاضعة لذلك المنهج فبضاعته فيها مزجاة. الوحي الرباني الخاتم حجة على الذين يعقلون لا الذين قلوبهم غلف.

وقفة حق
لا تتعدى آليات البحث في الحوادث الحديث عن أسبابها الظاهرة، رغم أن للأسباب ربا يهيئها ويرسلها كيفما يريد وعلى من يشاء. إن كلمة السفير الليبي في مجلس الأمن وقفة لله تحفظ له، وتحد للصلف الدولي لا بد للساسة الأحرار القيام به في المحافل الدولية مرارا، فالرأي العام الغربي لا يزال مخدرا بأساطير المحرقة الصهيونية ويدفع من قوت يومه ثمنها، وصدمات كهذه في اللقاء الرسمية توقظ الضمير الجمعي لشعوب مسلوبة الوعي، ولو كانت قد بلغت مبلغا في التمدن والتحضر.
لم يستفد المستشرقون من هذا المثقف إدوارد سعيد الذي كان يعيش بين أظهرهم، ولم يحمل كتابه “الاستشراق” لأمته لقاح اليقظة الحقيقية، فبقي الرجل وإرثه الفكري ضائعا بين عالمين. إن ادعاء المستشرقين الموضوعية العلمية والبحث عن الحقيقة يقتضي النظر في ما قاله الرجل عنهم، وإلا فإن بحثهم مغرض وتوصيتهم للسياسات الخارجية لبلدانهم له آثار كارثية عليهم، ولازم النتيجة كان ولا يزال معقولا. ولا يخلو الأمر من نزهاء وهم قليل.
في تكوين الإنسانية دافع غريزي للحرية يذكيه العقل والقلب معا، ومهما تسلطت الأنظمة الشمولية، قمعا أو تحايلا، فلها ساعة ستنهار فيها، ودليله ما من دكتاتورية عمرت إلى الأبد. ولكن من يحفز تلك الفطرة البشرية كي تتحرر من القيود والأغلال؟ وما هي الثقافة التي تصلح للحياة بها وهي حرة؟ هذا هو بيت القصيد.
هذه صورة القضية الفلسطينية وهي بين أيدي الحكام العرب، يقرؤون الوقائع وما ستؤول إليه من منظور نفسياتهم المهزومة ودجلهم على الناس، ولا يلزمنا أن نصدقهم ونقرأ قراءاتهم نحن الذين نؤمن بإرادة الله وإرادة الشعوب في التضحية والصمود، والتي قزمت مقاوماتها المحتل، وعرته، وجعلت الداني والقاصي يتجرأ عليه، بل وقصفت تل أبيب ولا تزال، والأيام بيننا في حسم المعركة، ولو دام هذا الصراع مئة عام قادمة.
ثقافة الهنود ونظرتهم للمسلمين عموما غير مفهومة كثيرا للعالم الإسلامي، لانشغال الأخير بالصراع المحتدم في قلبه منذ عقود. لا تقل قضية كشمير عن قضية فلسطين في الحقيقة، فكلاهما جرح نازف وأهلنا فيهما بفم تنين؛ لذلك فإن مقاربة قضية كشمير وكأنها أرض هندية اقتطعت منها كما باكستان لا يتناسب والبعد الروحي للقضية في حس المسلمين. التغول الهندوسي وظلامته لمئتي مليون مسلم يعيشون في داخل الهند ورقة لمصلحة الأمة كي تطالب بمزيد من الحقوق من الهند الحالية، وليس الدفع بالهند إلى حرب استنزاف طويلة في كشمير إلا خيارا فعالا باتجاه ذلك.

محاذير
تحدث ابن خلدون عن العصبية القبلية لا التعصب للرأي ولو كان جهلا. العلاقة الرحمية عندما تكون ملتحمة وذات قوة، ولكي تسيطر وتسود تحتاج إلى سلطان من وحي، هذه خصوصية لدى العرب ملحوظة في التاريخ. ما يحدث في سورية ليست عصبية اجتمعت على دعوة، بل غوغائية وجهالة لا عقل لها ولا دين، وإلا كيف ترضى فئات متدثرة بالعشيرة بأن تقاتل سلطتها فتعطي مبررا للعدو الصهيوني للتدخل ومظاهرتها من دون إنكار صريح منها. هذه بداوة نافقة، لا تنبني دولة ولا حضارة.
الإنسان المعاصر دخل في مغامرة إعادة تدوير المفاهيم بطريقة لا يضمن فيها صلاح عواقبها عليه بالضرورة، خاصة مغامراته بإعادة اختبار القيم؛ فلقد أفسد حياته أيما إفساد، وأضاع شطرا من عمره المحدود بلا طائل. قد يكون الإنسان بحاجة ماسة إلى وصاية تربوية على الصعد كافة، حتى يتلقى الناس تذكيرا دائبا يأمنون به على صحتهم النفسية والمسلكية ليحيوا سعداء، وكفى بربك هاديا ونصيرا.
أمام الكنيسة الكاثوليكية تحديات جمة، تعود بنسب إلى ما استقر عليه الإيمان المسيحي بمؤتمر نيقية زمن الإمبراطور قسطنطين في ٣٢٥م، الذي دعا إلى إعادة تشكيل بنود الديانة وفق المعتقد الجديد في طبيعة المسيح اللاهوتية بدل الناسوتية، ومنح الباباوات صلاحيات واسعة فككت الكنيسة لاحقا وحجمتها. ربما تحتاج مجامعها الأسقفية في هذا العصر تجاوز الاكتفاء باختيار رئيس جديد للكاثوليكية إلى مراجعات جريئة تجدد قناعاتها المعتقة إذا ما هي أعادت فتح كل شيء للنقاش، بما في ذلك عقيدة التثليث، وحركة التنوير الأوروبي، وموقفها غير الواضح من الحروب الصليبية ومن الصهيونية ومن استغلال البشر والحرب العالمية، ومن الرهبنة، ومن إحجامها عن ممارسة السلطة الزمنية بكيان كامل الصلاحية…
الكنيسة الكاثوليكية لديها تراث لا بأس به من اللاهوت يسمح لها بسد الثغرات التي تؤخذ على الباباوات في تعاملهم مع الآخر، يمكن للبابا الجديد أن يكون أمينا على الإيمان المسيحي ويقيم العدل بين الناس ويرفع صوته عاليا في وجه الظلم والطغيان من أي جهة كانت كما صنع السيد المسيح، ولا يقبلن على نفسه أن يكون منزويا في كنيسته يلقي المواعظ التي تخشى الواقع المليء بالتحديات؛ فهنالك فقط تتحسس الإنسانية روح المسيح وأمه الطاهرة (عليهما السلام) وتتقارب الأديان المختلفة روحيا، لأنها في الأخير تنبع من مشكاة واحدة.