نجيب مجذوب: عِزُّ الشَّرْق أَوَّلُـه دمشق في الذكرى 15 لرحيل محمد عابد الجابري

نجيب مجذوب: عِزُّ الشَّرْق أَوَّلُـه دمشق  في الذكرى 15 لرحيل محمد عابد الجابري

 

نجيب مجذوب

 

عندما أجهش المفكر السوري الراحل طيب تيزيني بالبكاء عام 2015، في مدينة طنجة شمال المغرب، وهو يتحدث عن موطنه سورية خلال ندوة فكرية دولية عن (المجتمع والسلطة والدين في القرن الحادي والعشرين مغربا ومشرقا)، بكينا آنذاك معه بحرقة ومرارة؛ بكينا لبكائه رغم أن اللحظة التاريخية لم تكن مناسبة للبكاء. دمعاته السخيّات الساخنات الصادقات الغاليات التي أذرفها بتلقائية أثناء تحدثه إلى مستمعيه كانت أعمق من أن يفهمها أصحاب العقول الضحلة والوعي السطحي الذين مازالوا يؤمنون بأن الأرض مسطحة الشكل مثل أدمغتهم. فحينما يبكي مفكر تقدم به العمر، وأمام جمع غفير، مثل طفل صغير تاهت عنه أمه وسط الزحام، فإن هذا يعني ضمن ما يعنيه أن المصاب كبير جد كبير، وأن الألم عميق وقد بلغ أعلى درجاته. وأي مصاب أكبر من معاينة انهيار وطن يوما بيوم، وتدمير تراث عريق لا يقدر بثمن؛ وأي ألم أوجع من غدر الأشقاء، ومشاهدة وحوش مفترسة تتكالب وتتصارع على نهش طريدة مجروحة: «احنا تهاوشنا على الفريسة، وفلتت الصيدة واحنا قاعدين نتهاوش عليها…أجل تهاوشنا على سورية بتفويض سعودي، وتنسيق تركي أمريكي، ودعمنا مقاتلي جبهة النصرة…» بهذا التعبير السوقي لخص المسألة ليس زعيم عصابة أو ميليشيا، وإنما رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني في مقابلة تلفزيونية موثقة!

أن يبكي مفكر مثل تيزيني بسبب ما آلت إليه الأوضاع في «منارة المشرق» و«قلب العروبة النابض» فليس في ذلك غرابة بما أن الراحل كرس جزءا غير قليل من أعماله للبحث في إشكالية بناء الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية ومعوقات النهوض بها. فهو يعلم جيدا ما يعنيه انهيار الدولة السورية وتفتيتها وما نتائج ذلك وانعكاساته: إنه انهيار المشرق العربي برمته، وإعادة تفتيته من جديد. هذه حقيقة مؤكدة تثبتها وقائع التاريخ والجغرافيا والسياسة.
لكن ماذا لو كان القدر أمد في عمر مفكر آخر معاصر له اشتغل على الأسئلة نفسها وهو محمد عابد الجابري، الذي وافته المنية في العام 2010، ليرى بأم عينيه ما حل اليوم ببلاد الشام؟ أظن أنه كان سينهار انهيارا كاملا. كيف ذلك؟

قلة تعرف بأن بداية دراسة الجابري الجامعية كانت في دمشق عام 1957، وقلة قليلة تعرف بأن أول مرة خفق فيها قلبه عشقا كانت في بلاد الشام لفتاة كانت ممرضة تشرف على علاجه بإحدى العيادات. لحق بها ذات يوم أثناء ركوبها الحافلة عازما على أن يبوح لها بعشقه. وبينما هو يتردد في خطواته، إذا بها تفاجئه بالاقتراب منه لتهمس في أذنه بصوت منخفض أجش، وعيناها شبه نائمتين: «أنا أعرف أن قصدك شريف، ولكن مــ…مــ…ما فيش فايدة. محمد.. أنا من عائلة مسيحية محافظة».

وقد علق فيما بعد على هذه الذكرى العاطفية في سيرته الذاتية (حفريات في الذاكرة، من بعيد) متكلما بضمير الغائب: «لقد بقيت حاضرة في خياله مدة، يتصورها معه «هاربين» إلى مكان ما في العالم ليست فيه حواجز بين المسيحية والإسلام، مكان حر طليق خال من جميع القيود التي تحمل الفتاة أو الفتى على القول بكل مرارة اليأس: «ما فيش فايدة».

لقد سحرته دمشق أكثر بكثير من مدينة الإسكندرية التي مر بها في طريقه عبر البحر. كتب في (الحفريات) بضمير الغائب يصف أول لقاء له بدمشق: «لقد وجد دمشق مدينة هادئة ونظيفة، ووجد سكانها في غاية النظافة والهدوء واللطف، يعتبرون كل عربي واحدا منهم، فيشعر الوافد عليها من العرب بأنه فعلا بين أهله وذويه: في دمشق لا يشعر العربي بالغربة أبدا – أو على الأقل هكذا كان الشأن يومئذ». فلا عجب إذا تذكرنا بأن دمشق نالت عام 1956 من الأمم المتحدة لقب «عاصمة الأناقة»، إذ تم تصنيفها إلى جانب مدن أوروبية مثل باريس وروما وفيينا.

كان الراحل محمد عابد الجابري شامِيّ الهوى استمدَّ عُروبِيتَه المتنورة من إقامته بدمشق. فإذا كانت «فتاة دمشق»، كما وصفها في سيرته الذاتية، ظلت حاضرة في ذهنه لمدة طويلة كما يعترف، فما بالنا بأرض ووطن وحضارة قال عنها أحمد شوقي ذات يوم: «عز الشرق أوله دمشق». لا شيء يشد المرء إلى أرض أكثر من الحب، «وما الحب إلا للحبيب الأول». لكن متى كان الفلاسفة ينجحون في شؤون الحب والغرام؟

يعد الراحل محمد عابد الجابري أول باحث دشن القول بجدية ومنهجية في نقد وتحليل آليات اشتغال العقل العربي، وإثر ذلك خلف لنا من الأسئلة أكثر مما ترك لنا من أجوبة، واختار طوال مسيرته النضالية الحافلة ومساره الفكري الزاخر الانحياز للعقل والعقلانية والديمقراطية في زمن كثر فيه سب العقل وتسفيه العقلاء وتكفير الديمقراطية.

لا، لم يكن محمد عابد الجابري فيلسوفا، أو عالم اجتماع، أو مناضلا سياسيا، أو مثقفا عضويا، أو مدرسا ماهرا فحسب. لقد كان بالأحرى خرائطياCartographe  جديدا منشغلا أكثر برسم الخرائط لاقتحام مسالك الفكر الصعبة وفتح أراضيه المجهولة. وكانت أهم أرض مهد لنا طريق ارتيادها هي تراثنا الذي يعيش معنا. لقد أجهد نفسه لتعبيد الطريق نحو فهم عقلاني لمتن ابن رشد، وليثبت حاجتنا إليه أكثر من أي وقت مضى. فما أشد حاجتنا اليوم للجابري حتى نتمكن من فهم واستيعاب ما يجري ببلاد الشام، وما يحصل لنا في زمن سيطرة الأقزام وهجمة التطبيع وعولمة الجهل والرداءة والتفاهة. رحمه الله، ورحم طيب تيزيني. كانا، رغم اختلاف مشروعيهما، بمثابة جسر شامخ ممتد بين المغرب والمشرق…-