امل سبتي: الجولاني في بغداد: هل يوازن العراق بين العدالة والسياسة؟

امل سبتي
دعوة مثيرة للجدل: الجولاني ضيف القمة العربية في بغداد
يستعد العراق لاستضافة القمة العربية المقبلة في بغداد في 17 مايو 2025، وسط جدل متصاعد أشعلته دعوة أبو محمد الجولاني، رئيس الحكومة الانتقالية في سوريا، للمشاركة في هذا المحفل الإقليمي البارز. رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، أعلن رسمياً عن توجيه الدعوة خلال اجتماع السليمانية المنعقد منتصف أبريل، مؤكداً أن الجولاني “مرحب به في بغداد”.
تأتي هذه الدعوة غير المسبوقة في لحظة دقيقة تمر بها الساحة السورية والإقليمية بعد الإطاحة ببشار الأسد وصعود الجولاني إلى سدة الحكم في دمشق، مستنداً إلى معادلات قوى فرضتها التطورات العسكرية والسياسية خلال الأعوام الأخيرة. العراق، الطامح لتعزيز دوره كلاعب إقليمي مؤثر، يجد نفسه مضطراً لإعادة تموضع سياساته تجاه سوريا بما يتلاءم مع هذه المستجدات، رغم أن الضيف المدعو يحمل سجلاً دامياً محفوراً في ذاكرة العراقيين.
ماضي الجولاني الدموي: ذاكرة الإرهاب في العراق
اسم الجولاني ارتبط لعقدين من الزمن بمشهد الإرهاب في العراق وسوريا. فقد كان قيادياً بارزاً في تنظيم القاعدة، تولى مسؤوليات قيادية في العمليات الخاصة التي استهدفت المدنيين العراقيين، خصوصاً خلال فترة ما بعد الغزو الأمريكي للعراق (2003-2011).
من بين أبرز هذه الجرائم تفجير منطقة الكرادة في بغداد عام 2016، أحد أعنف الهجمات التي أودت بحياة ما يزيد عن 300 مدني عراقي. إضافة لذلك، تشير تقارير أمنية إلى أن الجولاني كان مسؤولاً عن تنسيق الهجمات الانتحارية على تجمعات مدنية، مقار حكومية، وأسواق شعبية في بغداد ومدن عراقية أخرى.
في الساحة السورية، قاد الجولاني جبهة النصرة، فرع القاعدة هناك، قبل أن يعلن لاحقاً “فك الارتباط” بالقاعدة، وهو إعلان ظل محل تشكيك واسع بين المتابعين والخبراء الأمنيين. بصماته واضحة في معارك إدلب وحلب، وفي سلسلة الانتهاكات بحق المدنيين والمعارضين السوريين الآخرين.
انقسام داخلي: بين الترحيب الرسمي والرفض البرلماني
دعوة الجولاني أثارت موجة اعتراضات قوية داخل البرلمان العراقي والمجتمع السياسي. النائبة ابتسام الهلالي أكدت أن أكثر من 50 نائباً صوّتوا ضد مشاركته، معربين عن رفضهم القاطع لاستقباله في بغداد، معتبرين ذلك “إهانة لدماء الشهداء العراقيين”.
النائب سعود السعدي قدم شكوى رسمية إلى الادعاء العام العراقي مرفقة بأدلة تثبت تورط الجولاني في جرائم إرهابية ضد المدنيين العراقيين، مطالباً السلطات القضائية باتخاذ الإجراءات القانونية بحقه.
هذا الرفض لا يعكس فقط موقفاً سياسياً بل يتقاطع مع موقف محور المقاومة العراقي، الذي يعتبر أن الجولاني — رغم استلامه رئاسة الحكومة السورية — لا يمكن أن يُفصل عن تاريخه التكفيري ولا يُمنح شرعية على حساب ضحايا الإرهاب.
التوازن الصعب: حسابات العراق بين العدالة والمصالح
العراق يقف اليوم على مفترق طرق حساس. من جهة، هناك مطلب شعبي وسياسي واضح بضرورة محاكمة الجولاني ومساءلته عن جرائمه بحق العراقيين، التزاماً بمبادئ العدالة وسيادة القانون. ومن جهة أخرى، تفرض التحولات الإقليمية واقعية سياسية قاسية: التعامل مع من يسيطر فعلياً على دمشق، خصوصاً في ظل تفكك المعارضة السورية وتراجع الدور الإيراني هناك بعد سلسلة الغارات الإسرائيلية المكثفة.
منح الجولاني شرعية سياسية قد يفتح لبغداد بوابة نفوذ في مستقبل سوريا، لكنه يحمل مخاطر استفزاز الداخل العراقي والإضرار بالعلاقات مع قوى محور المقاومة مثل إيران وحزب الله. التحدي يكمن في إيجاد صيغة توازن تحفظ المصالح دون التفريط بالثوابت الوطنية.
المشهد السوري المتغير: هل حكومة الجولاني مستقرة؟
الوضع السوري لا يبعث على الاطمئنان. حكومة الجولاني، رغم سيطرتها المعلنة على دمشق، تواجه مخاطر متعددة. الهجمات الإسرائيلية المتكررة على العمق السوري أضعفت القدرات العسكرية والبنى التحتية، بينما لا تزال قوات سوريا الديمقراطية وبعض الفصائل الكردية تسيطر على مناطق استراتيجية شمال وشرق البلاد.
إلى جانب ذلك، هناك تنافس داخلي محتدم بين الفصائل المسلحة السنية التي طالما انقسمت بين الولاء لتركيا أو قطر أو السعودية. كل هذا يجعل حكومة الجولاني عرضة لانقسامات داخلية أو انقلاب محتمل، ما يعني أن التعامل معه كرئيس مستقر قد يكون رهاناً محفوفاً بالمخاطر.
خيارات بغداد: كيف يدير العراق هذا التحدي؟
بغداد أمام ثلاثة سيناريوهات واقعية:
اعتقال الجولاني عند وصوله ومحاكمته، ما قد يُكسبها احترام الرأي العام الداخلي لكنها تخسر معها ورقة التفاوض مع سوريا.
احتواء الجولاني عبر تعامل بروتوكولي محدود دون منحه شرعية مطلقة، ما يوازن بين حفظ كرامة العراق وتجنب صدام سياسي.
التجاهل السياسي عبر خفض مستوى التواصل أو إسناد الأمر للجامعة العربية جماعياً.
الخيار الثاني يبدو الأكثر عقلانية، إذ يمكن أن يُمكّن العراق من إبقاء قنوات الحوار مفتوحة دون استفزاز الداخل أو التخلي عن مطالبه المشروعة.
الخاتمة
حضور الجولاني في بغداد يشكل اختباراً حقيقياً لقدرة العراق على الموازنة بين العدالة والمصالح الإقليمية. بغداد التي تسعى لتكريس دورها المحوري تحتاج لنهج دبلوماسي حكيم يضع استقرارها الداخلي ومصلحتها الوطنية فوق كل اعتبار. الأيام القادمة كفيلة بكشف توجه بوصلة القرار العراقي في مواجهة هذا التحدي المعقد.
كاتبة تونسية