د. سعد ناجي جواد: الأطباء العرب ينورون ردهات وأقسام مستشفى كينغستون في لندن

د. سعد ناجي جواد
من الأمور المعروفة في بريطانيا هذه الايام، بل ومنذ زمن، ان الأطباء الاجانب، وبالذات العرب والمسلمين، اصبحوا عماد النظام الصحي البريطاني. وان اعداد من يحصل من هذه الفئة على تكريمات عالية من الدولة لانجازاتهم العلمية والطبية الكبيرة اصبحت في تزايد مضطرد.
قبل ايام قليلة تعرضت إلى أزمة صحية ليست بالبسيطة مما دعي طبيبي إلى ان يطلب مني ان أتوجه مباشرة إلى قسم الطوارئ في مستشفى كينغستون ( Kingston On Thames Hospital) ، التي تقع ضمن منطقة سكني. لم اكن ارغب بالذهاب للمستشفى، واعتقدت ان اعطائي بعض الأدوية سيكون كفيل بحل المشكلة، ولكنه رفض القبول برأيي. ذهبت للمستشفى في الصباح الباكر وأُخضِعت لسلسلة الفحوصات التمهيدية (ضغط الدم والسكر ودرجة الحرارة وانتظام ضربات القلب واخذ عينات وغيرها)، لإعداد الملف الاعتيادي الذي يعرض معي على الطبيب المختص. وانا في الانتظار دخل عليّ طبيب في مقتبل العمر، وبادرني بالسلام بلغة عربية ركيكة مع ابتسامة تنم عن طيبة شديدة. قال أنا اسمي هاشم الدده، عراقي، (ثم علمت ان عائلته كانت قد تركت العراق منذ زمن وأكمل هو دراسته في بريطانيا)، واعتذر لان عربيته ليست بالجيدة. بدوري اكدت له ان لغته ممتازة ويكفي انه استطاع ان يكمل دراسته ويصبح طبيبا. ثم بدأ بفحصي وتبنى قضيتي بصورة كاملة وارسلني لعمل مفراس وتحليلات اخرى وطلب اعطائي مغذي، وبعد ان حل المساء جاء وقال لي عمو لن اسمح لك ان تخرج من المستشفى، يجب تبقى هنا الليلة حتى نتأكد من انك ستكون في أمان إذا خرجت. كل محاولاتي لكي اجعله يغير رأيه، مع وعد مني بان احضر في اليوم التالي، لم تجد نفعا. ثم اختلى بزوجتي وقال لها ارجوك ان تقنعيه بان يبقى في المستشفى ليوم آخر لأننا لحد الان لم نكتشف سبب المشكلة ونخشى ان تكون جدية. ومن لطفه الكبير قام بمصاحبتي إلى الردهة التي خصصت لي (Astor Ward)، واوصى العاملين فيها بان يهتموا بي، مع العلم انه لم يكن له سابق معرفة بي ولا يعرف من اكون. ثم وعدني بانه سياتي في اليوم التالي لكي يطمئن علي، رغم ان ذلك لم يكن من ضمن واجبه. وفعل ذلك طيلة الثلاثة ايام التي رقدتها في المستشفى.
عندما وضعت في السرير وكان الليل قد حل، وتم شبكي بكل انواع الأنابيب البلاستيكية الدقيقة التي تنقل المغذيات والأدوية إلى أوردتي، غلبني النعاس على الرغم من الألم، حيث كنت قد قضيت اكثر من 12 ساعة في قسم الطوارئ. وانا في غفوتي البسيطة سمعت شخصا يناديني (عم سعد يا عم سعد إيه اللي عامله بنفسك). تصورت لأول وهلة باني احلم ثم تنبهت فوجدت طبيبا شابا يقف على راسي ويرتب على يدي. فقال لي أنا الدكتور مهند جابر (مصري)، الاخصائي الذي سيتابع حالتك. اولا أريدك ان تطمئن ان التحاليل وصور المفراس أظهرت انه لا يوجد اي شيء خطير والحمد لله، ولكننا يجب ان نتأكد من معالجة هذا العارض الطارئ، ويبدو من الفحوصات الأولية ان السبب هو انك كنت قد اجريت عملية في الأمعاء سابقا، ورغم بعد المدة (حوالي خمس وعشرون عاما) بدأت بعض آثارها الجانبية تظهر الان على شكل التصاقات في الأمعاء، فأرجو ان لا تقلق، ولكن الامر يستوجب ان تبقى معنا يومين او ثلاثة. وغدا صباحا سأكون معك مصاحبا للدكتور الاخصائي الاستشاري في هذا القسم. وقام بإيجاز الممرضين في الردهة بما يجب ان يفعلوه معي، وشدد عليهم ان لا يسمحوا لي باكل او شرب اي شيء عدا رشفات قليلة من الماء.
لا استطيع ان اقول باني نمت نوما عميقا لسببين الاول هو عمليات اخذ العينات المستمرة من الدم وفحص نسبة السكر ودرجة الحرارة وضربات القلب طوال الليل، ووجود الأنابيب التي ادخلت في جسمي، وتغيير العبوات التي تنقل الدواء والمغذي كلما نفدت، والثاني بعض الالام التي ظلت تعاودني بين الاونة والأخرى ولكن بفترات متباعدة. في اول صباح اليوم التالي جاء شاب في مقتبل العمر تدلل هيئته على انه ممرض تحت التدريب، وسألني، أسوة بباقي المرضى، ماذا اريد لفطوري، وسالته هل سُمِحَ لي بالأكل؟ انتبه الشاب واعتذر وقال لا يمكن ان تأكل اي شيء. فطلبت من ان يساعدني لكي اذهب للحمام. وقام بذلك بكل رفق، وعندما سالته عن اسمه قال عبدو، فقلت ومن اين انت قال أنا سوري، وانت؟ قلت أنا عراقي، فرد علي اهلاً عم ان شاء الله سلامات. ثم علمت ان اسمه عبد القادر، وهو طالب في كلية تمريض، ويعمل بفترات متقطعة ليعيل نفسه ولكي يكمل دراسته. وكان يقوم بعمله بشكل دووب ولم تفارق الابتسامة محياه.
وهكذا حظيت برعاية ثلاثة اشخاص كانوا يتناوبون على متابعة حالتي كلما سمحت لهم الفرصة، ويطلعون زوجتي التي لازمتني طوال الأزمة، على تطور حالتي بعد ان كانت تضطر احيانا لأخذ ابنتنا للمدرسة او إعادتها للمنزل. الطريف هو انني عندما كنت اطلب منهم اسمائهم الكاملة كنت ألاحظ بعض علامات الشك والقلق على وجوههم، هذا الإحساس الذي فسرته بانه من مخلفات الايام التي عشناها في اوطاننا في ظل الخوف المستمر من كل شيء. عبد القادر لم يعطني سوى اسمه الاول، والدكتور مهند جابر لم يستطع ان يهضم فكرة ان يعطيني اسمه وعنوان بريده الإلكتروني، وعندما فعل ذلك فعله بتردد. ثم عاد بعد ساعة وقال لي (بروفيسور سعد اعذرني، اللي ما يعرفك يجهلك، دخلت على الغوغل واطلعت على سيرتك الذاتية المشرفة وعلمت من تكون).
هذه الكلمات التي اكتبها هي في الاساس لتقديم الشكر الجزيل لهؤلاء الشباب الثلاثة على ما غمروني به من رعاية اخوية. ورغم سعادتي بوجود هذه الكفاءات العربية حولي، وغيرهم كثير في نفس المستشفى (في تقديري ان أعدادهم بالمئات)، إلا ان الألم كانت يعتصر قلبي عندما اتذكر بلادنا التي يتفنن سياسيها ومسؤوليها فن طرد هذه الكفاءات في وقت ان شعوبنا ومستشفياتنا بأمس الحاجة لها، ناهيك عن حسرة الآباء والأمهات الذين سهروا على تربية وتنشئة وتعليم هذه الاجيال ثم وجدوا انفسهم يعيشون في الغربة وما ادراك ما الغربة. أما إذا تذكرنا كيف تتعامل بعض المجتمعات مع الأطباء وكيف عادت المفاهيم المتخلفة المتمثلة بطلب الدية وتهديد الطبيب بالترحيل او القتل او الفصل العشائري والاعتداد على الكوادر الطبية بالضرب، وعجز الدولة عن حمايتهم، عندها نعلم لماذا تتمسك اغلب الكوادر الكفؤة بالغربة رغم كرههم لها.
ما أُحطت به من عناية من قبل الاخوة، او الأبناء الثلاثة، يجب ان لا يُنسيني تقديم الشكر لكل الأطباء والممرضين والممرضات الذين سهروا على عنايتي طوال مدة مكوثي في المستشفى، ولكن يبقى وجود هؤلاء الثلاثة الذين ذكرتهم حولي جعلني اشعر وكأني محاط بأفراد من عائلتي. جزاهم الله عني خير الجزاء ووفقهم الله في مسيرتهم العلمية والعملية. والحمد لله على كل شيء.
كاتب واكاديمي عراقي