سامر عبد الجبار المطلبي: دور سوق السندات الأمريكية في تغيير مسار السياسة التجارية للرئيس دونالد ترامب

سامر عبد الجبار المطلبي: دور سوق السندات الأمريكية في تغيير مسار السياسة التجارية للرئيس دونالد ترامب

 

سامر عبد الجبار المطلبي

المقدمة
فاجأ الرئيس دونالد ترامب  العالم كله حين غير فجأة سياسته التجارية، وقرر تأجيل فرض الرسوم أو التعريفات الجمركية المقابلة لمدة تسعين يوما. وقد أثار هذا القرار المفاجئ – كبقية قرارته- الكثير من التساؤلات عن الأسباب الحقيقية للتغير المفاجئ، وفي هذا العرض أحاول أن أقدم جوابًا علميًا لأسباب هذا القرار المفاجئ. فضلًا عن أنني سأناقش بقدر الإمكان نتائج هذه السياسات التجارية وأثرها في الاقتصاد الأمريكي  وكيف أنها استندت إلى فهم خطأ لطبيعة الاقتصاد الأمريكي وتطوره.

سوق السندات  الحكومية

يتذكر الجميع ما حدث لرئيسة الوزراء البريطانية ليز تروس عام 2022 حين اضطرت  إلى تقديم استقالتها بعد مدة 49 يوما فقط من تسلمها منصب رئاسة الوزراء،  بسبب من قيامها تقديم ميزانية مصغرة شهر سبتمبر من عام 2022 اشتملت على 45 ملياراسترليني من تخفيض للضرائب غير الممولة، و قد هدفت خطتها إلى  دعم النمو الاقتصادي اعتمادا على الاقتراض من سوق السندات فقط , الأمر الذي ادى إلى خلق حالة من الهلع في الأسواق المالية. وهذا الهلع أدى إلى انخفاض حاد في قيمة العملة الاسترليني من جهة، وإلى ارتفاع حاد في عوائد السندات الحكومية من الجهة الأخرى، ومن ثم اضطر البنك المركزي البريطاني للتدخل من أجل إعادة الاستقرار إلى الأسواق  المالية ،  وفي الحق أن هذه الكلمات هي ما  يلخص أسباب سقوط رئيسة الوزراء البريطانية ليز تروس من منصبها بسبب سوق السندات البريطانية شهر اكتوبر عام 2022 ، و قد تكرر الحدث نفسه في فرنسا حين اضطر مايكل بارنييه رئيس الوزراء لتقديم استقالته بعد ان تسبب في اضطرابات مالية نهاية عام 2024 أي بعد ثلاثة اشهر فقط من تسلمه منصب رئاسة وزراء فرنسا عام 2024.

فما  سوق السندات الأمريكية؟ وما أهميتها؟

يمكن الإجابة عن هذا السؤال على النحو الآتي:

تقوم الحكومة الأمريكية بتمويل  دينها الوطني البالغ 36 تريليون دولار أمريكي عن طريق سندات وزارة المالية الأمريكية التى تبيعها إلى المستثمرين حول العالم – أفرادًا، وصناديق تقاعد، ودولًا أخرى، وغيرها ، و يحدد السعر الذي يرغب المشترون في دفعه لشراء هذه السندات سعر الفائدة على الدين الحكومي الأمريكي العام، الذي هو بدوره يحدد كلفة جميع أشكال الاقتراض الأخرى في الاقتصاد الأمريكي، مثل قروض الرهن العقاري أو إقراض الشركات و كذلك الأفراد ، وهذا  بالطبع يؤثر على نحو مباشر في المواطن الأمريكي في نهاية المطاف.

تُعدّ سندات الخزانة الأمريكية حجر الأساس للمعاملات المالية حول العالم – فهي مخزن للقيمة للبنوك الألمانية و اليابانية و الصينية وغيرها من الدول، وصناديق الثروة السيادية في الشرق الأوسط، ولعدد لا يُحصى من الأدوار الرئيسة الأخرى في دعائم النظام المالي العالمي، بكلمات أخرى يمكننا القول إن سوق الخزانة الأمريكية هي قلب النظام المالي العالمي،  وبصورة عامة نجد أن سوق السندات لا تذكر عادة في صفحات الأخبار الرئيسة مثل أسواق البورصة العالمية، وخاصة حين تكون الأمور في هذه الأسواق تسير على نحو طبيعي. الا ان ما حدث في الولايات المتحدة بعد إعلان الرئيس ترامب عن فرض الرسوم الجمركية فيما عرف بيوم التحرير يعد أمرًا غريبا جدا؛ إذ حدثت ثلاثة متغيرات رئيسة، فمن جهة انهارت الأسعار في أسواق  البورصة العالمية الأمريكية وغير الأمريكية صاحب هذا الانهيار ارتفاع في كلفة الإقراض اي انخفاض أسعار السندات الحكومية الأمريكية، ومن الجهة الأخرى انخفاض في سعر الدولار الأمريكي. وهذا الحدث الأخير اى انخفاض سعر الدولار عادة لا يصاحب المتغيرين المذكورين آنفا اي انخفاض الأسعار في البورصات وارتفاع كلفة الاقتراض أي انخفاض أسعار السندات الحكومية ، إذ يعد الدولارالأمريكي الملاذ الأخير الآمن للمستثمرين. ولم يكن هذا الأمر قد حدث في مثل هذه الحالة من قبل؛ إذ كانت هذه هي المرة الأولى في التاريخ .
إن المتغيرات الثلاثة هي:

أولا. انهيار أسعار الأسهم في أسواق البورصة العالمية
ثانيا. ارتفاع كلفة الإقراض أي انخفاض أسعار السندات الحكومية الأمريكية
ثالثا. انخفاض في أسعار الدولار الأمريكي  مقابل العملات الست الرئيسة الأخرى (سوق العملة)

مع حدوث هذه المتغيرات معا دق ناقوس الخطر على الإدارة الأمريكية، واضطرت لاتخاذ إجراء فورى لتفادي انهيار الأسواق المالية العالمية كما حدث مع تجربتي كل من رئيسة الوزراء البريطانية عام  2022  ورئيس الوزراء الفرنسي نهاية عام 2024، وهذا هو السبب الحقيقي الذى دفع الرئيس ترامب لتاجيل فرض الرسوم الجمركية لمدة تسعين يوما آملا من أن يتمكن خلال هذه المدة من إبرام اتفاقيات ثنائية مع بقية الدول من أجل تفادى حدوث أزمة مالية عالمية جديدة  قد تكلفه رئاسته الحالية.

طبيعة الاقتصاد الأمريكي وخطأ استراتيجية إدارة الرئيس دونالد ترامب

ينظر الرئيس ترامب الى الاقتصاد الأمريكي نظرة كلاسيكية قديمة مبنية على اعتبار ان قطاع الصناعة التحويلية يمثل الاقتصاد الحقيقي، وهذه النظرة تفترض ان النظام الراسمالي نظام ساكن غير ديناميكي، في حين يعلم المتخصصون أن الراسمالية قد مرت بمراحل عدة حتى وصلت الى ما يعرف بالراسمالية المالية حيث تستحوذ البنوك وصناديق الاستثمار والمؤسسات المالية الأخرى على بقية قطاعات الاقتصاد، واليوم تظهر هذه الحقيقة بكل وضوح،  الأمر الذى جعل من سياسة الرئيس ترامب استراتيجيا غير مناسبة، ومغلوطة، وتتناقض مع مصلحة الاقتصاد الأمريكي. ولعلي أحتاج هنا إلى توضيح هذه النقطة بالتفصيل:

لقد افترض الرئيس ترامب أن قيمة استيرادات أمريكا من السلع تفوق بكثير جدا ما تصدره من السلع إلى تلك الدول التي تستورد منها(عجز في الميزان التجاري)، وخاصة الصين ، وقد مثلت هذه الفجوة التجارية أساس حجة الرئيس ترامب في حربه التجارية ضد الدول الأخرى؛ إذ عدّ الرئيس ترامب أن هذه الدول تسرق من الولايات المتحدة ثروتها الوطنية، و كانت، ومنذ عقود، تسرق من الولايات المتحدة وبلا رحمة، وأن الوقت قد حان كي يتم إيقاف هذا النزف واعادة ثروة أمريكا من هذه الدول المختلفة، فعلى سبيل المثال تبدو صورة تجارة السلع بين الولايات المتحدة الأمريكية وبقية العالم على النحو الاتي:
 في عام 2024، بلغ مجموع  العجز التجاري للولايات المتحدة  مبلغ 1.2 تريليون دولار، ومثل العجز التجارى مع الصين مبلغ  (-295 مليار دولار) و مع الاتحاد الأوروبي مبلغ (-236 مليار دولار).
وبالنسبة للصين فقد تقلص العجز التجاري الأمريكي مع الصين إلى مبلغ (-295 مليار دولار) عام 2024 في حين كان قد بلغ ( -418 مليار دولار) عام 2018 ، وفي الحقيقة تخفي هذه الأرقام حقيقة ما يجري إذ قامت الشركات الصينية بإيقاف تصدير بعض منتوجاتها من مصانعها في الصين، وزادت من صادراتها إلى الولايات الأمريكية من مصانعها في دول أخرى مثل فيتنام وأندونيسيا، من ثم  أظهرت الأرقام انخفاضا في الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة.
الميزان التجاري مع  بقية دول العالم: حققت الولايات المتحدة فوائض تجارية مع دول مثل هولندا (56 مليار دولار) وهونج كونج (22 مليار دولار)، ولكنها سجلت عجزاً مع المكسيك (-172 مليار دولار) ومع فيتنام (-123 مليار دولار) ومع كندا مبلغ (-63.3 مليار دولار)؛ وعليه استحوذت هذه  الأرقام  كل الاهتمام في الجدل الدائر حول الرسوم الجمركية وأصبح هدف الرئيس ترامب تغيير هذه الأرقام؛ إذ اعتقد أنها تمثل سرقة أو نزفـًا مستمرًا من واجبه إيقافه.
وهنا سأحاول أن أظهر خطأ حسابات الرئيس ترامب وفريقه من الخبراء:
ويعود السبب هنا إلى أن قطاع الخدمات في الاقتصاد الأمريكي يتفوق كثيرا على قطاع الصناعات التحويلية. فالولايات المتحدة تصدر خدمات الى العالم أكثر بكثير مما تستورد منه ،الأمر الذى يظهر فائضا كبيرا جدا لصالح الاقتصاد الأمريكي، وهذا يتضمن الدول التي تقع في قلب المعركة  التجارية الحالية : الصين ومجموعة دول الاتحاد الاوربي وكندا و المكسيك، إذ نجد أن  الفائض التجاري الأمريكي في قطاع الخدمات قد ارتفع إلى 293 مليار دولار أمريكي عام 2024 بزيادة قدرها 5% عن عام 2023 وكذلك ارتفع الفائض تارة اخرى و بزيادة قدرها 25% عام 2022 وفقا لبيانات وزارة التجارة الأمريكية.
وتتضمن هذه الحقيقة أمورًا خطيرة جدا ، إذ إن دول العالم تعلم بهذه الحقيقة، وأن بإمكانها وضع العراقيل أمام قطاع الخدمات الأمريكية، مما سيؤدى الى خسائر تفوق كثيرا الفوائد التي يمكن للاقتصاد الأمريكي أن يحققها على المدى البعيد بافتراض أن الرسوم الجمركية ستتمكن من اعادة بعض الوظائف الى  قطاع الصناعات التحويلية، لأن هذه الوظائف الموعودة في هذا القطاع  لا تستطيع تعويض الخسائرالمتوقعة في قطاع الخدمات.
 يشتمل قطاع الخدمات تقريبًا على كل ما لا ينتج عن المصانع والمزارع والمناجم وآبار النفط. ويشتمل كذلك على متاجر التجزئة والمطاعم والفنادق، بالإضافة إلى مزودي خدمات البرمجيات والإنترنت والاتصالات. كما يشتمل على سائقي الشاحنات وشركات الطيران واستوديوهات الأفلام وشركات الإعلام. ويشتمل أيضًا المدارس والجامعات ومقدمي الرعاية الصحية والمحامين والمحاسبين.
تكشف نظرة تاريخية للاقتصاد الأمريكي أن الوظائف في قطاع الخدمات كانت المحرك الرئيس للاقتصاد الأمريكي، على الرغم من صورة أمريكا في منتصف القرن العشرين أظهرتها دولةً مدعومة بالصناعات التحويلية ؛ ففي عام 1939 وهي حقبة الكساد العظيم تمكن قطاع الخدمات من توفير 57% من الوطائف في القطاع الخاص خارج القطاع الزراعي. وكان عام 1939 العام الذى بدأت فيه وزارة العمل الأمريكية بتسجيل إحصاءات الوظائف. واليوم تشكل الوظائف في قطاع الخدمات الأمريكي ما نسبته 84% من مجموع الوظائف في الاقتصاد الأمريكي ، ويبدو ان هذه الحقيقة البسيطة غابت عن مستشارى الرئيس دونالد ترامب.
لقد شكّلت الصناعات التحويلية ما يصل إلى 44% من وظائف القطاع الخاص خلال الحرب العالمية الثانية، إلا أن هذه النسبة  شهدت انخفاضًا مطردًا منذ ذلك الحين. ففي العام الماضي، لم يعمل في قطاع التصنيع سوى أقل من 10% من موظفي القطاع الخاص،  وفق بيانات وزارة العمل الامريكية؛ ويعود ذلك في المقام الأول إلى الأتمتة ونمو قطاع الخدمات، وتأتي التجارة في المرتبة الثالثة بفارق كبير لأسباب انخفاض أهميتها.
إن من الطبيعي أن تتقلص وظائف قطاع الصناعات التحويلية كنسبة مئوية من العمالة مع ازدياد ثراء الدولة وتقدمها التكنولوجي.،  فهذه هي الحركة الطبيعية للاقتصاد ، فاذا كانت الدولة ترغب بزيادة حصة قطاع الصناعات التحويلية في دولة متقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية فيجب في هذه الحال إعادة الاقتصاد إلى الوراء. وهذا بالضبط ما يحاول الرئيس دونالد ترامب تحقيقه، سواء أأدرك ذلك أم لم يكن يدركه.
 في الختام ارغب بالتعليق قليلا بشأن كبيرالمستشارين الاقتصاديين للرئيس دونالد ترامب واسمه بيتر نافارو. هذا الرجل الف عددا من الكتب عن الصين، وهو مهندس سياسات الرئيس ترامب التجارية ضد الصين ،ويؤمن هذا المستشار بنظرية المؤامرة، ويعتقد ان الصين تخطط للقضاء على أمريكا؛ ولهذا ركز اهتمامه باتجاه الصين وكيفية محاربتها، ودعا إلى إعادة بث الروح القومية الاقتصادية، ومن كتبه  ((الموت على يد الصين))، وهو في هذا الكتاب يجادل بأن الممارسات الاقتصادية للصين تشكل تهديدا استراتيجيا للغرب وللاستقرار العالمي، وهو يكرر ذلك في كتابه الثاني المعنون بـ ((حروب الصين القادمة))، ففي هذا الكتاب كرر نافارو أفكار نظرية المؤامرة، وعدّ الصين تهديدا استراتيجيا للغرب وللاستقرار العالمي. وفي كتابه الثالث الموسوم (( النمر النابض))  درس المؤلف  طموحات الصين العسكرية وتداعيات ذلك على الأمن العالمي، ويذكر في كتابه ((في زمن ترامب)) تجاربه مع الرئيس دونالد ترامب، واخيرًا نرى المؤلف في كتابه الموسوم ((استعادة امريكا ترامب))  يستكشف سياسات ترامب الاقتصادية واستراتيجياته لاستعادة النفوذ السياسي ، ومن الجدير بالذكر ان بيتر نافارو لم يكن من كبار الاقتصاديين الأمريكيين ولم تكن نظرياته مقبولة في اوساط الجامعات المرموقة،  وهو إلى ذلك لم يتمكن من تقديم أية نظرية اقتصادية جديدة تعالج الأزمات الاقتصادية، ؛ إذ كان جل اهتمامه منصبًا على الصين وعلى الخطر الذي تمثله مستندًا في ذلك إلى أفكار نظريات المؤامرة، وقد عثر الرئيس ترامب على هذا الرجل مصادفة حين كان في ولايته الاولى ، كان قد أراد أن يجد اقتصاديا يتفق مع أفكاره في فرض رسوم جمركية على الواردات.، ومن أجل تحقيق هذا الهدف طلب من نسيبه جاريد كشنير ((زوج ابنته  إيفانكا ترامب)) أن يبحث له عن مستشار اقتصادى يؤيد أفكاره. وبحث جاريد كشنير من خلال غوغل في الإنترنيت، فعثر على كتاب عن الصين للمؤف بيتر نافارو، وهكذا أصبح بيتر نافارو كبير مستشارى الرئيس دونالد ترامب ومهندس سياسته التجارية، وتتلخص أفكار بيتر نافارو بأهمية فرض الرسوم الجمركية على الصين ،مؤكدا أنها تحمي الصناعات الأمريكية والوظائف، وقد أثارت هذه الأفكار جدلا واسعا في أوساط الاقتصاديين الأمريكيين ، إذ ذهبوا إلى أن هذه السياسة ستؤدى إلى ارتفاع اسعار المستهلكين ،وتخلق حالة من عدم الاستقرارفي الأسواق العالمية وبالنتيجة ستؤدى إلى ركود اقتصادي.