د. جمال الهاشمي: الولايات المتحدة بين محاولات الإصلاح وانهيار الدولة

د. جمال الهاشمي
تتجه أمريكا بقيادة ترامب إلى سلسلة من النهايات الحتمية لتأثيرها في العالم، لأن بنيتها الاقتصادية والحضارية ارتكزت بالأساس على القوة العسكرية وهيمنة القوة وهو اقتصاد حربي اعتمد على تجنيد العالم في مواجهة القوى المنافسة لوجوده أو المقاومة لحضوره ومنها تجنيد العالم الإسلامي والمسيحي لمواجهة الشيوعية خلال الحرب الأفغانية- الروسية، وتجنيد أوروبا المعاصرة لمواجهة روسيا في الحرب الأوكرانية – الروسية، وتجنيد العالم الإسلامي مجددا لمواجهة صدام حسين في العراق، وتجنيد العالم العربي لمواجهة إيران خلال الثمانينات.
وإذا نظرنا إلى العقلية الأمريكية- البريطانية عبر تاريخها فإنها توظف قدراتها العسكرية في اقتصاد الحروب، ومن خلال الصراع الاقتصادي تحدث ثغرات أخرى لتجديد الصراع، فعلي سبيل المثال، تمكنت الولايات المتحدة من توجيه صدام حسين في صراعه مع إيران، والغاية منه تحويل توجه إيران من الصراع مع الغرب إلى الصراع مع العالم العربي، ومن انكفائها القومي إلى التدخل الديني لضمان توسيع الفجوة بين القومية والقومية الفارسية، والصراعات القومية والدينية من الصراعات المزمنة بين الدول.
ومن ثم تفكيك القومية بالقطرية من خلال أزمة الديون والحدود بين الكويت والعراق والذي أدى إلى صراع قطري بين الدول وما يزال هذه الصراع قائما ضمن مفاهيم القومية وكلياتها، إلا أن الصراع الآخر هو صراع المعتقدات داخل القطر الواحد في إطار المبادئ الإسلامية الكلية.
فالقطرية العربية تعمل على تفكيك القومية في إطار مبادئها الكلية كما أن تفكك المعتقدات المبادئ الكلية للإسلام بآرائها، ومن خلال هذه الآليات التفكيكية سقطت القضايا الكلية التي كانت توحد القوميين والإسلاميين معا، كقضية فلسطين على سبيل المثال، وهذا التخلي هو الذي ساهم في تفكيك محور المقاومة من خلال ثورات الربيع والتي كشفت مدى هشاشة النظم والمجتمعات العربية، وهو ما يعني مزيدا من الأزمات والصراع المجتمعية نتيجة لتراكمات فكرية وثقافية واستبدادية حصرت الدولة والأمن والقومية والتعليم في العقل السياسي.
بنفس الآليات أسقطت بريطانيا بالقومية السلطنة العثمانية لتؤسس للاستعمار الذي عمل على تفكيك القومية العربية من خلال جامعة الدول العربية، وتفكيك العالم الإسلامي من خلال المنظمات الإسلامية، وبنفس الآلية تفكيك الثقافة الإسلامية بالأحزاب الإسلامية.
هذه المنظمات التي كانت تحمل ثقافة كلية ساهمت إخفاقاتها المتكررة من تفكيك الثقافة القومية الكلية بالقطريات الوطنية لا سيما بعد فشل جامعة الدول العربية من حل أزمة العراق ومن قبلها أزمة فلسطين التي انتهت باتفاقية كامب ديفيد ونكسة 67، وأخيرا فشل الجامعة العربية من حل إشكاليات ثورات الربيع العربي، وهذه المتواليات أضعفت شرعية وفاعلية جامعة الدولة العربية التي ما تزال قائمة صوريا رغم ضعف ثقافتها التي تأسست عليها، وعلى غرارها سقطت الاتحادات الإسلامية والتي أسقطت القوميات الإسلامية التي أسس لها جمال الديني الأفغاني ومحمد عبده، حيث نشأت القومية الإسلامية لجمع المعتقدات المختلفة تحت مظلة اجتماع القوميات الإسلامية أو صور الإسلام العقائدي القومي المتعدد.
والقومية الإسلامية تضم عدة قوميات عرقية ولغوية مختلفة ولكنها أخرجت المعتقدات الأخرى، بينما القومية العربية تضم عدة أديان ومعتقدات مختلفة، وهذه بدورها أخرجت القوميات العرقية الصغرى كالأمازيغ والأكراد، وهذه الاختلالات ولدت إشكالات على المدى البعيد لابتعادها عن الضوابط والمبادئ الكلية لهذه الهياكل المصطنعة.
وقد فرخت القوميات الإسلامية أحزابا إسلامية تتناقض معتقداتها مع بعضها داخل الدولة الواحدة، وفرخت القومية العربية إثنيات وجهويات جغرافية وثقافية داخل القطرية الواحدة، وما تزال مستمرة تفيك البنية الواحدة كتفكك الأنساب الواحدة إلى انساب فرعية كتفكك القبائل العربية عن بعضها.
ومن داخل القبيلة الواحدة تحديات أخرى مع الوقت لعدم وجود رؤية كلية شمولية تؤسس لمفهوم الدولة كملاذ بنيوي قادر على استعادة الذات الكلية والحضارية والإنسانية.
هذه الإرهاصات العفوية والانفعالية واللامنهجية في التأسيس والسياق أفرزت مجتمعات متحاطمة تفتك بـأي مشاريع وطنية جامعة.
ومن هنا وجد التدخل الخارجي مساحات هشة للعمل عليها لاعادة ابتعاث حضارته أو تجديدها أو الحفاظ عليها بمقومات وإمكانيات جغرافية الاختلاف وخصوصا في العالم الإسلامي.
وتظل جغرافيا الشرق الأوسط على الهامش تبحث عن غطاء دولي لاستمرار وجودها، لأن مقومات دافعيتها أضعف من إمكانيات دفاعها ، وإن بدت دولا إقليمية بتضخيم قوتها كوسيط حضاري للقوى الدولية، وهو ما يجعل قوتها واستمرارها رهين ببقاء الحضارة التي تؤدي بالنيابة عنها هذه الواسطة، وهذه الوساطة أقلة كلفة من التأسيس على إرث حضاري، وهو ما أدى إلى فصل الموروث والعمق عن واقع الدولة، ورضيت أن تبقى هذه الدول وسيطا للحضارات المتقدمة.
فإيران دولة حضارية لكنها لم تفعل مقومات حضارتها باتجاه القوقاز ونتيجة لانفصالها عن العمق التاريخي، واختلافها مع العمق الديني أصبحت دولة وسيطة لحضارات وقد ساهمت حضارتها من أخذ دور الوسيط فشكلت هجينا منحها استقلالا نسبيا، وهذه النسبة من الاستقلال هي التي أعطت لها قدرة دبلوماسية لمواجهة التحديات.
وتركيا التي كانت امتداد حضاري لحضارة إسلامية انفصلت عن جغرافية العمق الإسلامي الذي أسس لوجودها، ومن ثم تحولت بحكم الجغرافيا إلى وسيط حضاري بين العالم الأوروبي – الغربي والعالم الإسلامي، ومثلها باكستان.
أما مصر فقد تعددت فيها الحضارات مما جعلها دولة متكيفة، غير قادرة على أن تكون وسيط حضاري، وإنما أخذت موقعها كوسيط دبلوماسي مؤثر، بينما الأردن والإمارات وقطر والمغرب من الأدوات الدبلوماسية.
وبين هاته الدول تقع السعودية والجزائر، بينما تقع بقية دول الأزمات ضمن مساحات التأثير لهذه الأدوار، وهو ما يعطي لهذه الأدوات دورا على المستوى الإقليمي فقط وضمن محيطها ومجالها.
وتعد أمريكا هي الدولة الأكثر تأثيرا في العالم حيث ارتكزت قاعدتها العالمية على العمق الأوروبي، ومن ثم كان ترامب أول زعيم أمريكي يخرج عن السياق الحضاري وعن النص التاريخي، وقد كشف عن بنية كانت متصدعة منذ عقود لكنها كانت تحسن الإختفاء والاختباء.
الولايات المتحدة كما يرى الكثيرون إمبراطورية حديثة بغطاء ديمقراطي ولكنها مثل كل الإمبراطوريات تعيش مفارقات بين التوسع والانكماش، و كلما ازداد اتساعها الخارجي تآكل نسيجها الداخلي، وكلما حاولت فرض نظامها على العالم انكشف هشاشتها في عمقها الأصلي.
وبذلك لم يكن ترامب انحرافا عن السياق، وإنما تعبير صريح عما هو كامن في الأعماق فهو يرفض القيم الكونية والإنسانية ويؤمن بالانغلاق القومي وتسليع السياسة والأخلاق معا.
لم يغير وجه أمريكا بقدر ما أظهره على حقيقته، وهذه الانكشاف هو ما تشتغل عليه كل من روسيا والصين، لأن الانكشاف يعكس ضعف القدرات المؤسسية وانحدارها.
إبراز ترامب قوته إنما هي من أدوت التمويه التي تعكس عمق التهديد الداخلي وتحدياتها الخارجية، إن سياسته الإصلاحية هي أزمة وجودية لمفهوم الدولة، وهو لم يستوعب بعد سنن التراجع بعد التقدم، وعدم الاستيعاب ومحاولاته إعادة إحياء العظمة الأمريكية هي التي تسرع من انهيار الدولة، وهي نفس ارهاصات الدولة العثمانية التي قادت وسعت من دائرة الحروب قبل زوالها، وبنفس الآلية سقطت المملكة المتحدة بحروبها التوسعية.
إن الحضارات عندما تبدأ بالانحدار تسعى للحفاظ على مكانتها أو قد تعمل على أن تحدث تجديدا يوسع دورها فوق مكانتها السابقة بإمكانيات أضعف من إمكانيات تأسيسها، وهو يؤدي الى تبديد الإمكانيات المتاحة والتسريع بالانهيار، بدلا من القبول بالواقع والعمل وفق امكانياتها والتنازل السلمي عن دورها.
في الثمانينات اعترف الاتحاد السوفياتي بالأزمة البنيوية فاخترع البروستيكا؛ أي إعادة البناء.. لكنها كانت محاولة إصلاحية متأخرة بامكانيات غير متوفرة، فانتهت بانهيار المنظومة السوفيتية وتفكيكها.
اليوم تشعر أمريكا بنفس لحظات السوفيت لكنها لا تريد الاعتراف، وتتبنى مشاريع إصلاحية دون أن ترى الواقع، التصريحات تعكس حجم التخوف التي تمر بها أمريكا المعاصرة.
ترامب في هذا السياق هو لحظة بروستيكا أمريكية من نوع خاص لا يخفي التوحش الأمريكي الذي كانت تسوق له الدبلوماسية تحت مظلة الديمقراطية والقوانين والمنظمات الدولية، بل يفتخر بهذا التوحش ويرى أن بقاء العالم ببقاء هذا التوحش والهيمنة الأمريكية حتى على الحلفاء.
كما أنه لا يعد بالإصلاح على غرار جوربوتشوف بل يعد باستخدام القوة والسيطرة، ولا يعد بالقيم الإنسانية بل بالمصالح المجردة؛ قالها بوضوح: نحن هنا لنأخذ لا لنمنح و نستبد لا لنقود، شعارنا أمريكا أولا، هكذا يتحدث الإمبراطور حينما يفقد الثقة في أدوات الإقناع فيلجأ إلى العنف الخطابي تمهيدا لاستخدام عنف القوة مع الدول الأضعف.
المفارقة أن وضوح ترامب كانت في ذاته، وقد ساهم في تعرية النموذج الأمريكي عالميا، وكذلك في كشف تحديات الدولة ومعوقاتها، مما يسمح للقوى الكبرى كالصين وروسيا باتباع أساليب مختلفة في التعامل مع المجتمع الدولي.
لم يعد بالإمكان الحديث عن “ديمقراطية عالمية” أو “قيادة أخلاقية” مع استمرار صعود هيمنة الرئيس ترامب على القوى المحلية ومؤسسات الدولة، وكيف ساهم في تفكيك الدولة بثقافات سياسية مختلفة، إذ أن تهديد المجتمعات ليس بتعدد ثقافتها الايدلوجية والعرقية، وإنما تتصدع بتعدد الثقافات السياسية واختلافها، وقد لعب الأحزاب بتعدد أيدلوجياتها من تدمير المجتمعات العربية، وبنفس الآلية ونظرا لغياب مركزية الدولة العميقة لأمريكا تصدعت الديمقراطية وانقسمت الدولة على ذاتها.
إن كل ما بشرت به من نهاية التاريخ لفوكوياما والدبلوماسية الشعبية لنأي ذهب مع ترامب، و لم يبق لها من منطق الفكر إلا ما أشار إليه المفكر الاستراتيجي الحضاري صموئيل هنتجتون والمؤرخ الإنجليزي برنارد لويس.
لكن المشكلة لا تكمن في أمريكا فقط فذلك من مصلحتها وإنما تكمن في العالم التابع لها، وفي النخب التي ما زالت تتصرف كأن واشنطن هي المركز الأخلاقي للعالم والحامي الدولي لبقائها.
هنا يظهر ضعف الاستقلال الثقافي والفكري والذي ظلت جذوره في البنية الذهنية العربية التي ظلت تستقي وجودها من عقلية الاستعمار مما أفقدها القدرة على التحرر ومن ثم استبدت بها قبضة الهيمنة الثقافية والتعليمية والفكرية وما تزال تفككها وتقسمها لأن عمق بقائها لم يكن من الداخل وإنما من يستمد من الخارج.
إن فترة ترامب وما بعدها تضعنا أمام سؤال مركزي؛ هل سنواصل استيراد النموذج من إمبراطورية تتآكل؟ وهل ننتظر التعليمات من نظام هو نفسه لا يثق بمستقبله؟ أم سنبدأ أخيرا في بناء مشروعنا الذاتي ليس كردة فعل لما يحدث من انهيار عالمي وإنما كمبادرة حرة واعية تؤسس لمشاريع حضارية تحسن اختيار مقومات تأسيسها؟ إن الشعوب المستلبة التي لا تحسن قراءة التحولات والمتغيرات تستحق أن تبقى في الهامش وأن تكون ضمن تجاذبات القوة والاستلاب .
إن ما يجمع البروستيكا السوفياتية بالبروستيكا الأمريكية أن كليهما لم يكن اعترافا حقيقيا بالعطب بل سعى منهما للتحايل عليه، و الفرق بينهما أن السوفيات سقط بصمت، بينما أمريكا تسقط بصخب.
عندما عاد دونالد ترامب إلى سدة الحكم في بداية 2025، لم يعد كزعيم سياسي يحاول إنقاذ أمريكا المتهالكة، وإنما كمؤشر على نهاية مرحلة تاريخية أرهقت العالم بتدخلاتها الدامية، ولم تكن عودته تعبيرا عن قوة تياره وضخامة مؤيديه وأنصاره، بل عن عجز النظام القائم وعدم قدرته على إنتاج ذاته، وهنا كان للمهرجانات الديمقراطية لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة تنزل من مستوى الفكر والنخبة والمثقف إلى مستوى العامة، مهرجانات الحماسة الديمقراطية والصرخات القومية.
لقد دخلت الولايات المتحدة في طور الانغلاق الداخليو ظهر ترامب مرة أخرى كضرورة داخلية لنظام فقد بعض أدواته، ومن ثم كانت الرسوم الجمركية ثورة ضد اقتصاد العالم على غرار الحرب العالمية الثانية.
لقد فرض ترامب ضرائب شاملة على الواردات من كندا والمكسيك والصين والاتحاد الأوروبي ثم أعاد تعريف التجارة العالمية بوصفها ساحة صراع لا تعاقد، ونقل الخطاب الأمريكي من قيادة النظام إلى استثماره حتى الرمق الأخير من وجوده في السلطة.
ترامب ظاهرة ثقافية وسياسية جسدت انسحاب أمريكا من تعهداتها الليبرالية باتباع سياسة منغلقة ترى في الآخر تهديدا لا شريكا.
لقد انتقلت الولايات المتحدة من دور المشرع الدولي إلى دور المستثمر العسكري ومن خطاب الحقوق إلى منطق الاستبداد، وبدل أن يكون البيت الأبيض مركز لصنع القرار العقلاني تحول إلى مسرح للانفعالات ومختبر لتجارب سياسية تقوم على الغريزة والعاطفة وليست على العقلانية و الرؤية.
إن أخطر ما كشفه ترامب في ولايته الثانية هو انهيار العقد السياسي داخل المجتمع الأمريكي فقد انقسمت الدولة على ذاتها بين نخب اقتصادية لا تؤمن إلا بالربح، وجماهير مسحوقة تبحث عن معنى للهوية والخروج من الوضع السائد، وجهاز دولة يتحول من أداة للحكم الى أدوات للصراع.، بهذه المتغيرات تآكلت الثقة بين المكونات وسقطت فكرة الاستثناء الأمريكي وأحاديته العالمية.
الرجل الذي أطلق على حملته شعار تحرير الاقتصاد كبل الدولة بالرسوم التي فرضها، و أدت إلى ارتفاع الأسعار وتباطؤ النمو وانكماش التجارة وبدأ أصدقاء الأمس من كندا إلى ألمانيا بمراجعة علاقاتهم مع واشنطن، بينما تسارعت تحالفات الشرق نحو بناء نظام بديل.
هنا لم تعد أمريكا قادرة على ضبط العالم ولا حتى ضبط حدودها إلا ما تقوم به من أدوار على هامش العالم الإسلامي الذي ما يزال يراهن على الوجود الأمريكي حتى الرمق الاخير.
وهنا نتوقع السيناريوهات القادمة:
تفكك الشرعية الديمقراطية لا سيما مع تصاعد الخطاب الشعبوي والانقسام المجتمعي وفي المراحل القادمة سنشهد مزيدا من التشكيك في نزاهة الانتخابات وعودة قوية للنزعات العنصرية والميليشيات المسلحة؛ مما يجعل من الدولة ساحة مواجهة داخلية مفتوحة.
انهيار التحالفات الغربية حيث بدأت أوروبا بالابتعاد عن واشنطن وقد تقود ألمانيا وفرنسا تحالفا أوروبيا أكثر استقلالا وحينها سيفقد حلف الناتو مبررات وجوده الاستراتيجية وستصبح الصين قطب اقتصادي وأمني بديلا عن أمريكا في آسيا.
الانكماش الاستراتيجي، ستشهد الفترات القادمة انسحابا أمريكا تدريجيا عن ساحات النفوذ ليس بموجب كاستترايتجية انعزالية بل نتيجة فشل مشروع الهيمنة مما قد يؤدي خروجها إلى فوضى جيوسياسية واسعة النطاق.
صراع داخلي على شكل الدولة وخصوصا مع تصاعد النزعات الانفصالية في ولايات مثل كاليفورنيا وتكساس مما قد يدخل البلاد مرحلة جديد لمراجعة النظام الفدرالي نفسه وربما تتحول المطالب الاقتصادية إلى مطالب سيادية.
لم يعد الحديث عن نهاية أمريكا ضربا من المبالغة بل أصبح واقعا تفرضه الوقائع، وما يجري ليس مجرد أزمة سياسة؛ فالإمبراطورية التي ولدت على أنقاض الحرب العالمية، وأدارت العالم تحت مظلة الحرية والديمقراطية تنهار قيميا وعقليا وأخلاقيا وكل ذلك سيساهم في تغيير العالم تغييرا حقيقيا وجذريا.
وهذا الفراغ يستدعي من الشعوب إعادة البناء الذاتي بالقيم الإنسانية لتخلق نموذجا حضاريا قادرة على التأثير ومن ثم قابلا للتصدير، لأن دبلوماسية الفكر أقوى من دبلوماسية القوة، فإذا كانت نهاية الإمبراطوريات تبدأ بتصدع مركزها فإن بداية تحرر الشعوب تبدأ بتطوير ذاتها وهنا الخطأ الأكبر الذي ترتكبه مجتمعاتنا ليس في أنها تنظر إلى الغرب من منظور حضارتها وقيمها وإنما تنظر إليه من موقع الثقافة الغربية، كما لا تنظر إليه من موقع الشريك الواعي أو الناقد المبدع بل من منظور التابع القلق من هذه التغيرات.
أن أخطر أنواع التبعية ليست العسكرية ولا الاقتصادية وإنما التربوية والثقافية التي عطلت مناهج التعليم وأفرغت الإعلام عن المعنى وتحولت الثقافة إلى استهلاك سطحي، بهذه السياسات أصبحت الشعوب قابلة للانقياد بالخارج حتى ولو تحررت الجغرافية، وما مظاهر الشعوب وسلوكياتها إلا دليلا على انقيادها.
إن التحديث الحقيقي لا يعني الاستنساخ بل بناء بنية ذهنية قادرة على استيعاب الحداثة من داخل الخصوصية التاريخية والعمق الثقافي وسلوكية المجتمع وقيمه وأعرافه؛ لكن ما يحدث اليوم في أغلب العالم العربي هو تبن أعمى لنماذج تربوية مستوردة وفقدان للثقة في اللغة والتاريخ المحلي وتهجين ثقافي ينتج جيلا مشوشا لا غربيا ولا عربيا.
ما لا يدركه الآخرون أن أمريكا بعد ترامب ستفقد نفسها وبوصلتها التعليمية وتعيش أزمة هوية فكرية، وإنه لمن العبث أن نواصل تقليد نموذج متهالك؛ فالجامعات الأمريكية التي كانت منارات للفكر الإنساني أصبحت تدار كأنها شركات تجارية، والمحتوى الثقافي الأمريكي لم يعد ينقل المعرفة بل يبيع الإثارة، ويفرغ الإنسان من معناه العميق.
إذا أردنا الخروج من هذا المسار التابع فعلينا أن نعيد تعريف التعليم لا كوسيلة للتوظيف فقط بل كأداة للتحرر الفكري والسلوكي والعقلي، وأن نعيد للثقافة دورها النقدي لا الترفيهي وهذا لن يتحقق إلا إذا عادت العربية إلى مركز المعرفة وإذا استرجعت المدرسة دورها في بناء المواطن لا المستهلك.
فالشعوب التي تفقد احترامها لذاتها وثقافتها هي شعوب تابعة عمياء للتقاليد الوافدة، ومن لا يتحكم بأدوات إنتاج أفكاره من منظومة قيمه وثقافته، لا يمكنه أن يتحكم في مصيره ومستقبله، وإن الفرصة التاريخية اليوم تقودنا إلى تفعيل دورنا في مجالات التربية لا سيما بعد سقوط النموذج الأمريكي الذي ترك فراغا فكريا.
والسؤال هو: من يملأ هذا الفراغ؟ وهل نعيد بناء الإنسان العربي بعقل حر يتأسس على لغته و تاريخه ومشروعه الحضاري؟ أم ننتظر حضارة أخرى لنستمر عبوديتنا بإدارة أعيننا من جديد إلى الخارج؟