عصام هيطلاني: سورية بين ضرورات السلطة واستحقاقات المعارضة

عصام هيطلاني
ـ في ظل التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية العميقة التي تواجه الدولة السورية الجديدة ، يجد الرئيس الانتقالي ” أحمد الشرع ” نفسه أمام استحقاق مصيري يتجاوز كونه قرارًا سياسيًا .. ليصبح مسألة وجودية تمس جوهر مشروع الدولة ومستقبلها. فالتوازن المطلوب اليوم لا يقتصر على إدارة تناقضات داخلية فحسب ، بل هو توازن استراتيجي بين ضرورات الحفاظ على سيادة الدولة ووحدتها الجغرافية والمؤسساتية ، وبين المطالب الشعبية التي تتسلح فيها المعارضة
ـ الواقع السياسي والانقسامات العميقة
ـ تتسع الهوة يومًا بعد آخر بين السلطة الجديدة في سورية والمعارضة السياسية بمختلف أطيافها ومكوناتها ، وسط مشهد إقليمي ودولي شديد التعقيد ، حيث تحاول فيه أطراف خارجية استغلال هذا الشرخ لتعزيز نفوذها وفرض مصالحها على الدولة السورية الناشئة. وتأتي معظم هذه المحاولات تحت غطاء ” دعم الاستقرار ” أو ” رفع جزئي للعقوبات ” أو ” الاعتراف التدريجي بشرعية السلطة الجديدة “، في مقابل تمرير اتفاقيات سياسية واقتصادية وعسكرية مجحفة.. تمس السيادة الوطنية وتكبّل الدولة بقيود تحد من حركتها وتلجم طموحاتها المستقبلية
ـ العدالة الانتقالية لا الانتقائية
ـ يُعد موضوع العدالة الانتقالية أحد أبرز محاور الخلاف بين السلطة والمعارضة في سورية. ففي الوقت الذي تطالب فيه معظم شرائح المعارضة بتفكيك شامل لبنية النظام البائد ، ووقف إعادة تدوير رموز القمع والفساد داخل مؤسسات الدولة ووزاراتها ، تتبنى السلطة الجديدة رؤية مغايرة إلى حدّ كبير، إذ ترى أن الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد تفرض عليها ضرورة الحفاظ على هيكلية الدولة وضمان استمرارية عمل مؤسساتها ، وهو ما يستدعي ، من وجهة نظرها ، الإبقاء على بعض الكفاءات والخبرات التي لا يمكن الاستغناء عنها في الظروف الحالية ، وذلك لضمان الاستقرار ومنع الانهيار ، وهذا لا يعني بالضرورة تبرئتهم أو عدم محاسبتهم مستقبلا
ـ أما المعارضة ، فترى أن المسألة لا تقتصر على البعد الإداري أو الفني أو التقني ، بل تمس جوهر القيم الإنسانية والمبادئ القانونية التي ينبغي أن يُبنى عليها أي انتقال سياسي حقيقي . وهي تعتبر أن العدالة الانتقالية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق في ظل استمرار النخب البيروقراطية والسياسية والرموز الاقتصادية المرتبطة بالنظام البعثي المنحل ، والتي شكّلت جزءًا أساسيًا من منظومة الاستبداد والفساد ونهب المال العام والخاص . ومن هذا المنطلق ، تطالب المعارضة .. باعتبارها صوتًا معبّرًا عن الإرادة الشعبية .. بعدالة شاملة تُعيد بناء الثقة بين الدولة والشعب ، وتكرّس مبدأ المساءلة العادلة و المنصفة ، مؤكدة أنه من غير المقبول ترسيخ مفهوم العدالة الانتقائية ، الذي لا يؤدي إلا إلى إعادة تعويم و إنتاج النظام المخلوع بملامح وأدوات جديدة
والأخطر من ذلك ، أن فرض مفهوم العدالة الانتقائية ، بشكل مباشر أو غير مباشر، أو التأخّر في المحاسبة ، والتغاضي عن جرائم النظام المخلوع تحت ذرائع ظرفية واستثنائية ، قد يفتح الباب على مصراعيه أمام انفلاتات أمنية ناتجة عن شعور عام بالقهر والظلم ، مما يمنح البعض الذريعة لأخذ ” القصاص ” بأيديهم خارج إطار القانون. وهذا من شأنه أن يُقوّض هيبة الدولة ويُضعف سلطة مؤسساتها
ـ إن هذا المسار لا يهدد الاستقرار الداخلي فحسب ، بل يُفقد الحكومة السورية ثقة المجتمعَين المحلي والدولي بقدرتها وجديّتها ، والتزامها بالمسار الإصلاحي ، في الوقت الذي تسعى فيه الحكومة السورية إلى الخروج من عباءة الاحتلال والوصاية ومخاطر التقسيم من ناحية ، وصولا إلى حشد أكبر قدر ممكن من الدعم السياسي والاقتصادي الدولي ، بهدف الحصول على اعتراف بشرعيتها ، وبالتالي استعادة استقلالها وسيادتها على كامل ترابها الوطني من ناحية أخرى
ـ تجنيس المقاتلين وتوليهم المناصب العسكرية : عقدة السيادة والهوية الوطنية
ـ من بين أبرز النقاط الخلافية بين السلطة وأصوات المعارضة ، تبرز قضية تجنيس المقاتلين الأجانب ومنحهم مناصب عليا داخل المؤسسة العسكرية والأمنية ، بوصفها واحدة من أكثر الملفات حساسية وتعقيدًا. فبالنسبة لقطاعات واسعة من الشعب السوري ، لا يُعقل أن يُسند القرار السيادي العسكري لأشخاص قادمين من خارج النسيج الوطني ، حتى وإن تم منحهم الجنسية السورية لاحقًا. إذ ترى شرائح واسعة من السوريين أن هذا التوجّه يُعدّ مساسًا مباشرًا بالهوية الوطنية ، وتكريسًا فعليًا لمبدأ الولاء ، وتجاوزًا لحقّ السوريين في حكم أنفسهم بأنفسهم ، دون وسطاء أو وكلاء
وخاصة في ظل التضحيات الجسام التي قدّمها السوريون ، فإن القبول بتسليم مفاصل حسّاسة في الدولة لأجانب ، لمجرد “مشاركتهم” في القتال إلى جانب بعض قوى المعارضة ، يُعتبر ضربًا لمبدأ السيادة ، ومصدرًا لانقسام داخلي عميق قد يهدد وحدة الصف الوطني . ومن هنا ، تدعو المعارضة إلى وقف هذا المسار بشكل فوري ، وإعادة الاعتبار للمعايير الوطنية في تولي المناصب العليا ، وخاصة تلك المرتبطة بالأمن والدفاع ، باعتبارها من صلب السيادة السورية التي لا تقبل المساومة أو التفويض
والأخطر من ذلك ، أن بعض القوى الغربية ، وعلى رأسها الولايات المتحدة ، بدأت باستخدام هذا الملف كورقة تفاوضية ، تُدرَج ضمن شروط ” الاعتراف ” بالسلطة الجديدة ، أو ضمن مسارات رفع جزئي للعقوبات عن الدولة السورية. فكلما تزايدت الأصوات الداخلية الرافضة لتجنيس المقاتلين وتوليهم مواقع سيادية ، كلما تحوّل هذا الملف إلى ورقة ضغط خارجية تُستخدم بشكل انتقائي ، ليس من أجل مصلحة السوريين ، بل لإعادة صياغة المشهد السياسي والعسكري ، بما يخدم توازنات إقليمية ودولية ، لا تخدم بالضرورة مشروع الدولة الوطنية المستقلة
ـ واجب الحكومة ومسؤولية المعارضة
ـ إن التحدي الأكبر الذي يواجه الرئيس ” أحمد الشرع ” لا يكمن فقط في إدارة الملفات المتراكمة وإيحاد المخارج المناسبة لها ، بل في قدرته على صياغة حكم سياسي جديد يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع ، ويؤسس لنموذج حكم حديث ، يقوم على الشراكة السياسية الفعلية ، والمساءلة الحقيقية ، والتداول السلمي للسلطة. إيجاد نموذج جريء وشجاع ، يُدمج فيه المعارضة ضمن مؤسسات الدولة لا خارجها ، ويمنحها دورًا رقابيًا وتشريعيًا حقيقيًا ، يحوّلها من خصم تقليدي إلى شريك وطني فاعل ، ومن قوة معطّلة أو سلبية إلى قوة إيجابية دافعة للإصلاح والتغيير البنّاء.
ـ في المقابل ، تتحمّل المعارضة مسؤولية وطنية لا تقل أهمية ، إذ لم يعد مقبولًا أن يقتصر دورها على النقد المستمر، ولغة الرفض والاحتجاج الدائم ضد تصرفات حكومة ناشئة خرجت من رحم المعاناة والقهر والإرث الأسدي الثقيل ، دون تقديم بدائل واضحة. كما لم يعد مجديًا اللجوء إلى الخطابات الشعبوية وتهييج الشارع دون رؤية أو برنامج واضح يرسم خارطة الطريق للمرحلة القادمة . فالمطلوب اليوم من المعارضة أن ترتقي إلى مستوى اللحظة التاريخية ، من خلال تقديم مشروع موحد ، سياسي واقتصادي وتربوي واجتماعي ، يُنافس رؤية السلطة ، ويطرح حلولًا لا شعارات ، ويعتمد خطابًا عقلانيًا رصينًا قادرًا على كسب ثقة المجتمع ، لا مجرد دغدغة مشاعره وعواطفه . فالمعارضة الفاعلة لا تُقاس بحدة لهجتها أو قوتها الخطابية ، بل بقدرتها على صياغة مشروع وطني بديل ، يُقنع الشعب بأمكانية تحقيق أهدافه المنشودة
ـ تبادل الأدوار والتنسيق غير المباشر
ـ في هذا السياق أيضا ، يمكن النظر إلى تبادل الأدوار والتنسيق غير المباشر بين الحكومة والمعارضة باعتباره أداة استراتيجية لتعزيز المصلحة الوطنية العليا ، لا مجرد تقاطع عفوي أو مؤقت في المواقف. فعندما تنجح المعارضة في التعبيرعن المطالب الشعبية بوضوح ومسؤولية ، وتُقابلها الحكومة بسياسات مرنة واستيعابية حكيمة ، فإن هذا التفاعل .. وإن جاء بصورة غير مباشرة ، يساهم في تخفيف الضغوط الخارجية والابتزاز السياسي الممارس على الدولة السورية ، لاسيما فيما يتعلق بهوية الدولة ودورها الوظيفي في المنطقة ، إضافة إلى ملفات الإصلاح والتغيير التي تسعى أطراف خارجية إلى إعادة تشكيلها وفق الرؤية الأميركية – الإسرائيلية
ـ لقد أثبتت التجربة المريرة التي مرت بها المعارضة السورية خلال أكثر من أربعة عشر عامًا ، أن الصراعات الداخلية ، والانقسامات بين منصات متعددة مرتهنة لأجندات إقليمية ودولية متباينة تحت العباءة الأميركية ، قد أفضت إلى نتائج كارثية على مسار الثورة السورية ، وأضعفت بنيتها ، وأدخلتها في أتون صدامات عبثية أفقدتها البوصلة والشرعية الشعبية
ـ من هنا ، فإن النظام السياسي المنشود في هذه المرحلة .. بكافة مكوناته ومواقعه .. مطالب بأن يتبلور كـكتلة ديناميكية مرنة وقادرة على التفاعل الإيجابي مع المتغيرات ، لا كجسم صلب ومنغلق يستدعي التدخل الخارجي لفك جمود مواقفه أو إخراجه من أزماته
ـ أما التنافر الحاد والصراع المفتوح بين الحكومة والمعارضة ، فهو السيناريو الأكثر ترقّبًا واستثمارًا من قبل بعض القوى الإقليمية والدولية ، التي تسعى جاهدة إلى تفكيك الجبهة الوطنية الداخلية الهشة ، وبالتالي إلى فرض شروط مجحفة على الدولة السورية تحت مسمّيات مختلفة ” الدعم ” أو ” الاعتراف “، في وقتٍ تحتاج فيه البلاد إلى أقصى درجات التماسك الوطني لاستعادة قرارها السيادي المستقل
ـ كاتب وباحث سوري مقيم في ألمانيا
ألمانيا ـ كولن