نور الدين خبابة: الهوية الجزائرية… الجرح المفتوح والعلاج المؤجَّل!

نور الدين خبابة
في سياق الجدل الدائر حول مخرجات القمة العربية التي ستُعقد في العراق، لا سيما ما يتعلق بوقف العدوان على الشعب الفلسطيني، برزت أصوات جزائرية تتخفى بثوب الوطنية الزائف، تنادي الرئيس عبد المجيد تبون عبر مواقع التواصل بعدم حضور القمة العربية خوفًا على سلامته، وتشير بأصبع الاتهام إلى دولة عربية بأنها وراء مقتل الرئيس الراحل هواري بومدين، مع أن الرئيس وقتذاك حضر قمة جبهة الصمود والتصدي في دمشق، وليس في العراق. كما أن وزير الخارجية أحمد طالب الإبراهيمي أخبرني شخصيًا أن الألم الذي أصابه شعر به قبل أن ينزل من الطائرة.
وفي وقت ظهر تسجيل للرئيس المصري جمال عبد الناصر، المعروف بمناصرته للجزائر والقضايا العربية، وفيه إيحاءات ضد الرئيس الجزائري هواري بومدين، وكأن ناصر يشكو من خذلان عربي، مع أن الجزائر في عهد هواري أعطت شيكًا على بياض وقّعه الرئيس في روسيا. وفي الوقت الذي تُستهدف فيه سوريا بنيران الاحتلال الإسرائيلي التي وصلت حدّ القصر الجمهوري، ناهيك عما يحدث في محيطنا الإقليمي.
وفي ظل تصاعد تشكّل الشرق الأوسط الجديد واتساعه نحو المغرب الكبير، فإن دور إسرائيل في الموضوع لم يعد خافيًا على أحد.
أُعيد فتح جرحٍ من جراح الهوية والذاكرة الجماعية على الهواء، وليس في مركز بحث أو في محاضرة بشكل أكاديمي، بل من خلال قناة تابعة لدولة الإمارات العربية وعلى المباشر، وبرزت تصريحات الدكتور محمد الأمين بلغيث، في وقت أُعيد فيه إشعال الأزمة الدبلوماسية بين الجزائر وفرنسا على أساس المعاملة بالمثل في قضية عقار السفارتين. وقد استُدعي السفيران من قبل في قضايا مختلفة، وفي وقت لم يُغلق بعد ملف بوعلام صنصال، الذي شكك في سيادة الجزائر على أراضيها التي تحررت بدماء الشهداء وإخلاص المجاهدين.
محمد الأمين بلغيث لا ينكر التنوع الثقافي واللغوي في البلاد، لكنه يرفض مصطلح “الأمازيغية” بوصفه قد تحوّل إلى مشروع سياسي موازٍ للدولة الوطنية، لا سيما وأن فئات ممن يتبنون هذا الطرح لا يؤمنون لا بدستور ولا بدين ولا بتاريخ مشترك، بل ولا تجمعهم مع فئات أخرى حُشرت في ملف الأمازيغية دون استشارة شعبية كما يحدث في النظام الجمهوري.
وقد أثارت هذه المواقف نقاشًا حادًّا، أدى بالتلفزة الجزائرية إلى نشر تقرير تصف فيه الباحث بلغيث بأنه مريض، مع أن الدولة الجزائرية كانت تُخصّص له من قبل مدرجات الجامعة لتكوين الأجيال!
كما أنها وصفت دولة الإمارات العربية بأقذع الأوصاف، مع أن ضيف البرنامج محمد الأمين بلغيث ابن شهيد، والصحفية التي ناقشته جزائرية، وكلاهما لو وجدا مناخًا يعبّران فيه في الجزائر لما اختارا جهة أخرى، كما حصل أيام تخوين المجاهد والوزير السابق الراحل عبد الحميد مهري. وكأن الجهة التي تقف وراء هذا التقرير متخندقة في نفس الخندق ضد عروبة الجزائر، مع أنها تستخدم الحروف العربية واللسان العربي.
إن ما جاء على لسان بلغيث ما كان ليحدث هذه الضجة الإعلامية، لو كانت مؤسسات الدولة الجزائرية على ما يرام. وإذا كان من حق بوعلام صنصال أن يعبّر عن رأيه حسب المتهكمين على بلغيث، وأن يتحدث في أمور تاريخية مع أنه لا علاقة له بذلك، فكيف بمن هو مختص في مجاله؟
وهل سبّ محمد الأمين بلغيث أو تخوينه أو سجنه سيقضي على موضوع التعصب والعنصرية الذي يتفاقم في الجزائر يومًا بعد يوم؟
إن اللهجات الشاوية، والتارقية، والمزابية، والقبائلية، إضافة إلى الموسيقى واللباس والمأكولات… مكونات أساسية من النسيج الجزائري، ولا أعتقد أن أبسط جزائري يرفض هذا التنوع الذي يعتبر ثراءً للساحة، فما بالكم بباحثٍ مختص؟
هل دسترة اللغة الأمازيغية التي لم تُشكَّل بعد، بدليل ما جاء في الدستور من أنه من حق السلطة أن تؤسس لها إطارًا، أنهت الصراع على الحكم أو كبحت جماح الانفصاليين؟
“الأمازيغية” مصطلح حديث نسبيًا، رافقه رفع علم ونشيد واستخدام سلبي لرموز تشير إلى كيانٍ ثقافي مستقلّ عن الهوية الوطنية، وهذا ما يظهر بوضوح في الأهازيج والشعارات التي لاحظناها حتى داخل الحراك، وما محمد بلغيث إلا مجرد شماعة يتخفى وراءها التيار المعادي للعرب والمسلمين.
إذا كان محمد الأمين بلغيث أحد من يشعلون فتيل الأحقاد بين العرب والأمازيغ، أو بالبربر كما يفضل هو، فمن الذي أسس حزب القبائل خلال الحركة الوطنية قبل اندلاع ثورة التحرير؟ (راجع شهادة يوسف بن خدة في مذكراته)
لماذا أمر عمر أوعمران المناضل أرزقي باسطا بقتل المناضل أحمد مهساس في سويسرا؟ (شهادة مصورة لأرزقي باسطا في مقر المجاهد)
لماذا تمت محاولة قتل علي كافي مع هواري بومدين في الحدود التونسية من قبل كريم بلقاسم؟ (شهادة علي كافي)
ألم يشارك كريم بلقاسم في إعدام عبان رمضان في المغرب؟ (بحسب ما ذكره ابن أخ عبان في إحدى شهاداته، وشهادات لمجاهدين منهم بن طوبال)
لماذا وقّع كريم بلقاسم اتفاقيات إيفيان باسمه؟
لماذا لا يوجد حرف واحد حول الأمازيغية في مؤتمر طرابلس؟
هل محمد بلغيث وراء الربيع البربري (1980)؟
هل هو وراء أحداث القبائل سنة 2001 أيام اغتيال ماسينيسا؟
من الذي عين أحمد حماني رئيسًا للمجلس الإسلامي؟
من الذي فتح مكبر الصوت للغناء في مسجد، وأحرق مسجدا؟
هل بلغيث من عيّن أحمد أويحيى رئيسًا للحكومة؟
هل هو من عيّن الجنرال توفيق مديرًا للمخابرات؟
هل هو من عيّن الجنرال جبار مهني في المخابرات الخارجية، وعلي أولحاج في قيادة الدرك؟
هل هو من يقف وراء حرائق منطقة القبائل؟
هل هو من يقف وراء حرق جمال بن إسماعيل؟
هل هو وراء اختطاف طائرة الإيرباص التي كانت تنقل المغني فرحات مهني إلى باريس؟
هل هو من يقف وراء نشأة حركة الماك الانفصالية؟
هل هو وراء اغتيال المغني معطوب الوناس؟
هل هو من كان وراء تصفية شخصيات مختلفة خلال التسعينيات؟
هل هو من وراء توظيف فئات على أساس العرق في سوناطراك؟
هل هو من يقف وراء ثراء طحكوت، علي حداد، يسعد ربراب، سعيدة نغزة؟
هل هو من يقف وراء الحط من شخصيات وطنية مثل الأمير عبد القادر، هواري بومدين كما يفعل آخرون؟
هل هو من كان يخون مصالي الحاج؟
إن تحديد يوم يناير عيدًا وطنيًا، وإطلاق اسم حسين آيت أحمد على الملعب الجديد في تيزي وزو الذي صرفت عليه الدولة المليارات، ونشأة الأحزاب السياسية والنقابات… وحصول منطقة القبائل على مشاريع وطنية، في حين مناطق أخرى لا تزال تعيش وكأن الاحتلال لم يغادرها، لم يوقف حالة الاحتقان.
فبرغم التمثيل السياسي لمسؤولي منطقة القبائل في مستويات عليا، في الحكومة والرئاسة، لا تزال بعض الحركات تعتبر الحكم غير شرعي، مستمرة في النشاط والاحتجاج داخل الوطن وخارجه، في السلطة وفي ثوب المعارضة، بل منهم من لايزال يطعن في عقبة بن نافع.. مما يدلّ على أزمة ثقة مستمرة! وتربص بمقاليد الحكم بل والتخطيط للمواجهة المفتوحة.
إن الجزائر تمرّ بمرحلة أكثر تعقيدًا من سابقتها، لأن الجراح لم تُعالج منذ بدايتها، بل وتزداد خطورة وتعقيدًا مع عامل الوقت، وكلما استمرت سياسة الهروب إلى الأمام، بل ويراوَدني شكٌّ أنها متعمدة للإستحواذ على كل شيء باستخدام المظلمة .
هل يُعقل أن يعيش أهل الصحراء أوضاعًا غير لائقة، في الوقت الذي تدر فيه شركة سوناطراك أموالًا على فرق رياضية وتنعش شركات مفلسة؟ بل وصل الأمر بأحد العرابدة أن يطعن في أهل بشار كيف يحصلون على كلية طب؟ نسي هذا العربيد أن ياسمينة خضرة ابن الصحراء، بلقاسم حبة، أبو القاسم سعد الله…الخ.
إن الجراح تتعفن دون أن تُعالج معالجة دائمة، وتكاد تتحول إلى سرطان ينذر بتفكيك البلاد.
إن قضية الصحراء الغربية، وحركة الأزاواد في مالي، وما يجري مع الجنرال حفتر في ليبيا، كلها قضايا تُزعج الجزائر كسلطة وكدولة ونظام، مما جعل هذه السلطة، كلما سمعت نداءً يدعو لتغيير الأوضاع نحو الأحسن، تُشهر كل أسلحتها.
إن الأستاذ محمد الأمين بلغيث مسؤول عن أقواله وإن حوسب عليها في قضاء مستقل أو في فضاء أكاديمي، والتوقيت الذي صرّح فيه، والقناة التي تحدث من خلالها، فالقناة ليست مدرجًا جامعيًا، ولا ثكنة عسكرية يؤتمر فيها جنودها بالإشارة، ولا جمهورها عربيٌّ قُحّ، ولا هو موالٍ لها، بل لها جمهور واسع، وقد تستغل بعض التصريحات بغية الإثارة لكسب المشاهدة، كما أن الأجهزة الأمنية العالمية توظف عملاءها ومواقع التواصل في ظل انتهاك السيادة الرقمية.
فعلى الأستاذ اختيار الوقت والوسيلة والجهة التي يخاطبها، لا أن يتحدث في فضاءات مفتوحة لا يتحكم في قدرتها على الاستيعاب، ولا في تحديد سن المتابعين ، ولا في التعقيب، ولا في التحكم في المآلات، لا سيما وأن مواقع التواصل تعيد وتُجترّ المقاطع وتستخدم فيها المؤثرات، ويحصل فيها القصّ والتركيب…
وعلى السلطة الجزائرية أن تُسارع بفتح حوار وطني شامل، وإلى الدعوة إلى مؤتمر جامع يعزز اللحمة الوطنية، يفضي إلى ميثاق وطني يرسم معالم جمهورية جديدة تسع الجميع، وتهيئ الأجيال من خلال التربية والتعايش الى مصالحة وطنية حقيقية شاملة.
وعلى التلفزة أن تكون وسيلة إعلام وتنوير للرأي العام، لا أن تكون وسيلة دعاية وبوقا للسلطة ضد جهة أو ضد فصيل أو ضد عِرق، فالأموال أموال الشعب.
نور الدين خبابه – 03 ماي 2025
ملاحظات حول المصادر:
شهادة أرزقي باسطا بالصوت والصورة نُشرت على المجاهد.
معلومات مباشرة من الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
اتهام كريم بلقاسم في مقتل عبان رمضان ورد على لسان ابن أخ عبان، وشهادات أخرى منها ما أدلى به المجاهد بن طوبال، علي كافي، منصور بوداود. إضافة إلى كوني من المساهمين في برنامج بث على الجزيرة حول اغتيال كريم بلقاسم وشارك فيه محي الدين عميمور بالإضافة إلى محمد الأمين بلغيث.
إشارات من مذكرات يوسف بن خدة حول حزب القبائل قبل الثورة والصراع الذي استمر داخل اللجنة المركزية.
كتاب محمد مشاطي “مسار مناضل”، كتاب “المهمة المنجزة” لساعد دحلب.
وثائق سرية ترجع للمخابرات السويسرية حول محاولة اغتيال مجموعة من العقداء من بينهم هواري بومدين، منشورة في كتابي “المصالحة الجزائرية” الذي صدر سنة 2014.
كاتب جزائري