الدكتور سمير مفيد القرم: كفى صمتًا.. كفى مجاملات.. حين يصبح الصمت خيانة والمجاملة شراكة في الجريمة

الدكتور سمير مفيد القرم
في زمن مضطرب تتكاثر فيه المآسي وتتقاطع فيه المواقف، لم يعد يكفي أن نشتم الظالمين ونلعن الطغاة من خلف الشاشات أو في المجالس المغلقة، لقد آن أوان الوضوح، فالظلم لا يعيش فقط على سطوة القامع، بل على صمت من حوله، وتبرير من يجمّله، وتخاذل من يرضى به خوفًا أو طمعًا أو كسلًا عن اتخاذ موقف.
وإذا كان السكوت عن الحق شيطانًا أخرس، فإن تبرير الباطل شريك صريح فيه، والدعاء على الظالم لا يُجدي ما دام الداعي يُطبع معه، أو يبرر جرائمه، أو يصمت اتقاءً لمصلحة أو مقام.
إن المأساة لا تقف عند حدود دولة وحدها، بل تمتد لتشمل أوطانًا عربية حوّلتها أنظمتها إلى مزارع خاصة تحكمها بالحديد والنار، وتخضع بالكامل لإملاءات الخارج، لا سيما الغرب، مقابل البقاء في السلطة. أنظمة تتحدث عن السيادة وهي لا تملك قرارها، وتُشيد بالقومية وهي تفتح الأبواب للمستعمرين الجدد بربطات عنق واتفاقات “استراتيجية”.
الواجب اليوم على الشعوب العربية أن تعي أن هذه الأنظمة ليست مظلومة كما تدّعي، بل ظالمة، خائنة، عميلة، باعت قضايا الأمة الكبرى مقابل رضا واشنطن ولندن وباريس. بعض هذه الأنظمة يموّل العدوان على غزة، وبعضها يمنع المساعدات، وبعضها يطبع علنًا ويفاخر، فيما شعوبه تقف عاجزة، مغلولة الخوف أو مربوطة بالإعلام الكاذب.
لقد سقطت حجج “الاستقرار” ،”الأمن” و “ورفع الذرائع “ولم يعد مقبولًا أن يُكافأ من ينهب الأوطان لأنه “يحافظ على النظام”. إن التحرر يبدأ من كشف هذه الأنظمة، ورفض التعايش معها، ونزع الشرعية الشعبية عنها مهما ادّعت تمثيل الشعوب وعدم المشاركة في مؤسساتها وفضحها فهي قائمة على الفساد والمغالاة .
يقول عبد الرحمن منيف: “أسوأ أنواع القهر، أن يتواطأ القريب مع عدوك، ثم يطلب منك الصمت باسم المصلحة العامة.”
القضية الفلسطينية مثال صارخ على ظلم متعدّد الطبقات، فهناك الظلم الواضح من آلة الاحتلال الصهيوني التي تقتل وتعتقل وتهدم، وهناك ظلم من نوع آخر: من ينسّق مع هذا الاحتلال، أو يسكت عن خياناته، أو يشرعن وجوده تحت لافتة “الشرعية الدولية”.
ما الفرق بين من يسجن المقاوم باسم الاحتلال، ومن يسجنه باسم “التنسيق الأمني”؟ من يطارد الأحرار خدمةً لمصالحه أو لبقائه في الكرسي، لا يقل خطورة عن من يطلق النار مباشرة على الأطفال.
الواجب الآن على الشعب الفلسطيني أن يخلع كل عباءة لا تنتمي لخط التحرر و أن يقول كلمته لمن يخونه من الداخل قبل أن يلعن المحتل، فالطغاة لا يُواجهون بالدعاء، بل بمقاطعة أدواتهم، ورفض أعوانهم، وكشف كذبهم.
يقول محمود درويش: “من يملك البحر لا يخشى من البلل.” ويقول تميم البرغوثي: “إذا الشعب يومًا أراد الحياة، فلا بد أن يسأل: من خانها؟ فالصمت مشاركة، والمجاملة خيانة.
ليست القضية مجرد رأي أو انطباع، بل أرقام دامغة تكشف حجم الظلم والتواطؤ. في فلسطين وحدها، ومنذ عام 2000 حتى نهاية 2024، قُتل أكثر من 14,000 طفل فلسطيني على يد قوات الاحتلال، واعتُقل ما يزيد عن 70,000 فلسطيني، بينهم أطفال ونساء وأسرى إداريون دون محاكمة.
في العدوان على غزة عام 2023، استُشهد أكثر من 38,000 مدني، وجُرح أكثر من 85,000، فيما دُمرت أكثر من 60% من البنية التحتية في القطاع المحاصر.
أما على مستوى الأنظمة العربية، فإن أكثر من 80% من الدول العربية تحتل مراكز متأخرة في مؤشر الديمقراطية العالمي، وتُسجّل تقارير حقوق الإنسان أن عدد المعتقلين السياسيين في العالم العربي يتجاوز 100,000 معتقل، من صحفيين وناشطين وأكاديميين، فقط لأنهم قالوا “لا” في وجه السلطات.
وفي مقابل هذه الأرقام المفزعة، لا نجد محاسبة حقيقية، ولا موقفًا عربيًا رسميًا موحدًا، بل صفقات وتسويات وصمت يُترجم تواطؤًا.
حين تُقابل هذه الكوارث بالصمت الرسمي، ثم تُطلب من الشعوب الطاعة والولاء، فهنا نكون أمام ظلم مركب، ظالم يُمارس، وأعوان يشرعنونه، وشعوب يُراد لها أن تنسى.
التاريخ – القديم والمعاصر – مليء بالشواهد التي تؤكد أن الصمت عن الظالم ليس حيادًا، بل مشاركة في الجريمة، ففي الأندلس، عندما بدأ بعض المسلمين بمهادنة ملوك الطوائف وطلب الحماية من النصارى، لم تكن النتيجة “توازنًا سياسيًا”، بل ضياعًا شاملًا للأندلس كلها، نتيجة خيانات وتنازلات متراكمة باسم الواقعية ولا زال التاريخ يسرد الحادثة فبعد سقوط الخلافة الأموية في الأندلس (القرن 11م)، انقسمت البلاد إلى دويلات صغيرة تُعرف بـ”ملوك الطوائف”، وكان كل أمير يُنافس الآخر، حتى تحالف بعضهم مع ملوك النصارى ضد إخوانهم المسلمين!
ومن أشهر الأمثلة: المعتمد بن عباد، ملك إشبيلية، الذي دفع الجزية لملك قشتالة، ألفونسو السادس، ليُساعده ضد خصومه من المسلمين، والمفارقة أن هذا الملك النصراني نفسه هو من استغل ضعفهم فاحتل طليطلة، قلب الأندلس، سنة 1085م.
حينها فقط، أدرك المعتمد وغيره أنهم خانوا أنفسهم، فاستنجدوا بيوسف بن تاشفين من المغرب، لكن بعد فوات الأوان. ورغم تدخل المرابطين لاحقًا، إلا أن التمزق والخذلان كان قد مهد الطريق لسقوط الأندلس بالكامل بعد قرون.
ولم يتعلم المسلمون من التاريخ جيدا فعندما كانت الخلافة العباسية في عام 1258م، اجتاح التتار بغداد بقيادة هولاكو، وأسقطوا الخلافة العباسية وقتلوا مئات الآلاف من المسلمين، في واحدة من أفظع المجازر في التاريخ. لكن الكارثة لم تكن فقط في همجية التتار، بل في فرقة المسلمين، في بعض الأمراء في الشام ومصر تواطأوا مع الغزاة، وأرسلوا لهم الهدايا، أملاً في النجاة الفردية على حساب الأمة كلها.
ثم توجه التتار نحو الشام ومصر، ففرّ الأمراء، وتراخت الجيوش، حتى برز العز بن عبد السلام، العالم الشجاع الذي وقف أمام السلطان وقال: “أنتم عبيد لا يصح أن تقاتلوا حتى تُباعوا في سوق النخاسة!”، فحرّك ضمائر الناس، وأشعل روح الجهاد، وأُعيد تنظيم الجيش، لتكون معركة عين جالوت سنة 1260م أول هزيمة حقيقية للتتار.
فحين خانت الجيوش، أنقذ الموقف عالم صدع بالحق، وأمّة توحّدت خلفه.
وفي عصرنا، رأينا كيف دعمُ أنظمة عربية للاستعمار الغربي أو الاحتلال الإسرائيلي لم يجلب لها “الشرعية”، بل جعلها أدوات مهترئة يُتخلّى عنها عند أول فرصة. ألم يُزَجّ بالشاه في المنفى بعدما كان حليفًا للغرب؟ ألم يسقط حسني مبارك في أيام رغم أنه “كنز استراتيجي” لإسرائيل؟ ألم يُترك بن علي يفرّ من بوابة خلفية رغم سنوات الولاء؟
وفي المقابل، ها هي غزة تقاتل بأقل الإمكانيات، ولكنها صنعت توازن ردع أرعب أقوى جيوش المنطقة، فقط لأنها رفضت أن تصافح المحتل أو تساوم على حقها. وهنا الفرق بين من يتمسك بالموقف، وبين من يرضى بالفتات.
هذه القصص ليست دروسًا في الماضي فقط، بل بوصلة للمستقبل. فإما أن نكون ممن يغيّر التاريخ، أو ممن يُدهس في هامشه.
يقول توفيق الحكيم: “الظلم الذي يسكت عليه الناس أقوى من الظلم الذي يقاومونه.”
ويقول نزار قباني: “ليس في الزمن العربي شيء أكثر وضوحًا من القمع، وأكثر غموضًا من الحقيقة.”
أما الكواكبي فحذّر قبل أكثر من قرن قائلًا: “الاستبداد لا يقوم إلا على الجهل، وأعوانه من الجبناء والمنافقين.”
فالشعوب العربية اليوم أمام خيار واضح: إما أن تكون شريكة في الجريمة بالصمت، أو رافضة لها بالفعل والكلمة والموقف، ولا كرامة تُنتزع في ظل من يحكم باسم الاحتلال، أو باسم المصالح الدولية، أو باسم “الأمن”، بينما هو يُسلم رقبة شعبه للعدو.
فلا تصافح يدًا تقتل أخاك ثم تعتذر باسم الوطنية،
الوطنية الحقيقية لا تعني الدفاع الأعمى عن كل من يشاركنا اللغة أو الهوية. الظلم لا يصبح مقبولًا لأنه صادر من “ابن البلد”، والخيانة لا تبرَّر لأنها موقعة من “رئيس”. نحن بحاجة إلى صحوة ضمير لا تجامل أحدًا، ولا ترضى بأنصاف المواقف، ولا تتواطأ تحت عباءة الخوف.
الظلم حين يُبرَّر يُصبح عادة، وحين يُسكت عنه يُصبح نظامًا، وقد آن للشعوب أن تكسر هذا النظام من جذوره، فالحرية لا تنمو في ظل المجاملات، والكرامة لا تُنتزع بالدعاء وحده.
كاتب اردني