مصـطفى بن خالد: شذرات إستراتيجية.. كشمير يتجدد وملفات إستراتيجية تلوح في الأفق.. الهند وباكستان على حافة الانفجار

مصـطفى بن خالد
صراع في قلب جنوب آسيا، حيث تتجاور الحضارات القديمة مع أحلام الهيمنة الحديثة، يعود شبح الحرب ليخيم من جديد فوق جبال كشمير المتنازع عليها.
فبين الهند وباكستان، الجارين النوويين اللدودين، يتصاعد التوتر هذه المرة بحدة غير مسبوقة منذ سنوات، بعد هجوم دموي وقع في أبريل 2025، هزّ الإقليم وأعاد إشعال نار الخصومة المزمنة.
لكن هذه الأزمة ليست مجرد حلقة جديدة في مسلسل طويل من العداء، بل تبدو كأنها مفترق خطير تتداخل فيه الحسابات العسكرية، والمصالح الإقليمية، والتوازنات الدولية المتغيرة.
إنها لحظة فارقة، تنذر بانفجار قد لا تقتصر تداعياته على حدود كشمير وحدها، بل قد تمتد لتزلزل استقرار آسيا، وتهدد الأمن العالمي في زمنٍ يفتقر إلى اليقين.
الهجوم الذي أشعل الفتيل
في 22 أبريل 2025، دوّى صوت الدم في وديان كشمير، حين تحولت رحلة سياحية إلى مأساة مروعة في منطقة بيهالغام الخلابة، الواقعة ضمن الإقليم الخاضع للإدارة الهندية.
هجوم مسلح أستهدف قافلة مدنية وأسفر عن مقتل 26 شخصاً، معظمهم من السائحين الهنود، في واحدة من أعنف الهجمات منذ سنوات .
سرعان ما أشعلت المجزرة فتيل الأزمة ؛ إذ سارعت نيودلهي إلى توجيه أصابع الاتهام نحو إسلام آباد، متهمةً إياها بـ”تغذية الإرهاب العابر للحدود” ودعم الجماعات المتشددة الناشطة في الإقليم، متوعدة برد “مزلزل ومدروس” .
في المقابل، نفت باكستان بشدة هذه الاتهامات، ووصفتها بأنها “محاولة فجة لتحويل الأنظار عن فشل أمني داخلي”، محذّرة من أن الهند “ تلعب بالنار وتدفع بالمنطقة نحو المجهول ” .
الهجوم لم يكن مجرد عملية إرهابية معزولة، بل بدا كأنه الشرارة التي أطلقت مرحلة جديدة من التصعيد، تضع كشمير مرة أخرى في قلب عاصفة تهدد بكسر ما تبقى من التوازن الهش بين القوتين النوويتين .
إجراءات انتقامية…
وسيناريوهات على صفيح ساخن
لم تمضِ ساعات على الهجوم الدامي في بيهالغام حتى بدأت الهند في رسم ملامح ردها، ليس فقط بلغة التصعيد، بل بلغة كسر القواعد .
جاءت الإجراءات الهندية سريعة ومتشعبة، حاملة معها رسالة سياسية وعسكرية بأن “ المرحلة المقبلة لن تكون كسابقاتها ” .
وكان أبرز ما أقدمت عليه نيودلهي :
• تعليق العمل بمعاهدة مياه نهر السند، المعاهدة التي صمدت منذ توقيعها عام 1960 رغم الحروب والنزاعات، والتي تعد أحد الأعمدة النادرة للاستقرار بين البلدين .
القرار يعكس نية الهند استخدام ورقة المياه كسلاح استراتيجي في المواجهة القادمة .
• إغلاق المعابر الحدودية الرئيسية، وطرد البعثة الدبلوماسية الباكستانية، وهو تصعيد دبلوماسي صارخ يعكس انقطاع قنوات التواصل الرسمية، في خطوة تزيد من احتمالات الانزلاق نحو مواجهة مباشرة .
• رفع الجاهزية القتالية وتكثيف الحشود العسكرية على أمتداد خط المراقبة في كشمير، مع تفعيل أنظمة الدفاع الجوي ووضع القوات في حالة تأهب قصوى، في إشارة واضحة إلى أن الهند تضع جميع الخيارات على الطاولة، بما في ذلك العمل العسكري المحدود أو حتى الضربات الجراحية عبر الحدود .
في ظل هذا التصعيد، تبدو السيناريوهات مفتوحة على كل الاحتمالات :
من الحرب الكلامية إلى المواجهة المحدودة، وربما ما هو أبعد .
فالمعادلة هذه المرة لا تتعلق بكشمير وحدها، بل باتت ترتبط مباشرة بهيبة الدولتين، وتوازن الردع النووي، ومستقبل الأمن الإقليمي برمّته .
باكستان :
رسائل حازمة عبر الجو والحدود والحلفاء
لم تتأخر باكستان في الرد، فجاءت تحركاتها مدروسة ولكن مشحونة بالدلالات .
فعلى وقع التصعيد الهندي، أعلنت إسلام آباد إغلاق مجالها الجوي أمام الطيران الهندي، في خطوة رمزية وعملية تهدف إلى تقويض حركة النقل والضغط الاقتصادي، وتُعد بمثابة إنذار مبكر بأن الأجواء باتت ساحة محتملة لأي اشتباك قادم .
في الوقت ذاته، رفعت القيادة العسكرية الباكستانية حالة الاستنفار القصوى على طول “ خط المراقبة ” في كشمير، ودعمت المواقع الحدودية بتعزيزات لوجستية وألوية قتالية، في ما يشبه إعادة تموضع تكتيكي إستعداداً لسيناريوهات الصدام .
لكن الرسائل الأخطر لم تكن بالتصريحات، بل بالتحركات الخلفية ؛ إذ حرصت باكستان على توجيه إشارات إستراتيجية غير مباشرة عبر قنواتها مع بكين وأنقرة، مفادها أن أي “ مغامرة هندية ” لن تمر دون ثمن، وأن الرد قد يتخذ أشكالاً متعددة — سياسية، أو عسكرية، أو حتى بالوكالة .
هكذا، بدا أن الأزمة الكشميرية تتجاوز حدود الجغرافيا، لتتصل بشبكة تحالفات إقليمية قد تُعيد رسم توازنات القوة في جنوب آسيا، وربما أبعد منها .
التوازن النووي…
كابوس الردع المتبادل
في خلفية هذا التصعيد، يلوح شبح التدمير المتبادل كرادع مرعب يمنع الانفجار، لكنه لا يلغيه .
فالهند وباكستان ليستا مجرد خصمين تقليديين، بل قوتان نوويتان تقفان على حافة هاوية، تمسك كل منهما بزناد قادر على تغيير ملامح جنوب آسيا إلى الأبد .
تقدّر الترسانات النووية للطرفين — وفق أحدث تقارير مراكز الأبحاث الدفاعية — بـنحو 180 رأساً نووياً لدى الهند مقابل 170 رأساً لدى باكستان، وهو توازن رقمي متقارب يعكس عمق الخطر الكامن في أي انزلاق غير محسوب .
ورغم تفوق نيودلهي الكمي والتقني في الأسلحة التقليدية، من حيث عدد الطائرات المقاتلة، والدبابات، والمدمرات البحرية، إلا أن باكستان تعوّل على ما تسميه “ الضربة النووية التكتيكية ” كسلاح ردع فوري ومحدد، لشلّ أي محاولة إجتياح بري هندي عبر كشمير أو البنجاب .
هذا النوع من السلاح — المصمم لاستخدام محدود في ساحة المعركة دون تصعيد شامل — يمثل في حد ذاته معضلة استراتيجية ؛ فمجرد التفكير في استخدامه يُدخل العالم في دائرة “ اللارجعة ”، ويجعل من أي نزاع تقليدي بوابة محتملة لحرب نووية، حتى لو على نطاق محدود .
وهكذا، يتحول التوازن النووي من أداة ردع إلى كابوس مفتوح :
كلما أقتربت القوات من خط النار، اقتربت الأيدي من الأزرار الحمراء، وكل حساب خاطئ قد يكلّف العالم ثمناً لا يُحتمل .
ويكمن الخطر الحقيقي ليس فقط في حجم الترسانات النووية، بل في التباين الجوهري بين العقيدتين العسكريتين لكل من الهند وباكستان، وهو ما يجعل من أي اشتباك، مهما بدا محدوداً، مرشحاً للتحول إلى كارثة لا يمكن احتواؤها .
فالهند تتبنى ما يُعرف بـ“ عقيدة الرد الكبير ”، أي أنها تحتفظ بحق توجيه ضربة نووية شاملة ومدمرة رداً على أي استخدام للسلاح النووي ضدها، حتى لو كان محدوداً أو تكتيكياً .
هذه العقيدة تهدف إلى خلق ردع نفسي شامل، لكنها في المقابل ترفع منسوب المخاطرة إذا ما تم تجاوز الخطوط الحمراء .
في المقابل، تعتمد باكستان على إستراتيجية أكثر مرونة وخطورة في آنٍ معاً ؛ إذ تحتفظ بحق إستخدام الأسلحة النووية في المراحل الأولى من أي صراع تقليدي واسع، خاصة إذا شعرت أن دفاعاتها مهددة بالانهيار أمام هجوم هندي كاسح .
وتُعرف هذه الاستراتيجية بـ” الضربة النووية التكتيكية ”، المصممة لردع التفوق الهندي ومنع أي اجتياح بري محتمل .
هذا التضاد الاستراتيجي — بين رد شامل متأخر، وضربة مبكرة محدودة — يجعل من كشمير واحدة من أكثر بؤر التوتر النووي قابلية للانفجار على وجه الأرض .
فالمعادلة هنا لا تخضع فقط لحسابات السياسة، بل لثوانٍ من القرارات المصيرية، حيث الخطأ في التقدير لا يؤدي إلى خسارة معركة…
بل إلى محو مدن، وزعزعة إستقرار قارة بأكملها .
خفايا إستراتيجية :
المياه والحدود وتحالفات تتقاطع في الظل
رغم أن كشمير تتصدر مشهد التصعيد، إلا أن ما يجري بين الهند وباكستان يتجاوز حدود الإقليم المتنازع عليه، ليغوص في عمق صراعات إستراتيجية أوسع، تُحركها ملفات المياه، والهويات القومية، وشبكة التحالفات الإقليمية والدولية المتشابكة .
• المياه…
السلاح الصامت الذي يتحول إلى صاعق تفجير
إعلان الهند تعليق العمل بـمعاهدة مياه نهر السند الموقعة عام 1960، والتي ظلت لستة عقود صمام أمان نادراً بين الخصمين النوويين، شكل خطوة غير مسبوقة في خطورتها .
فباكستان تعتمد على الأنهار التي تنبع من الهند — وخاصة نهر السند وروافده — بنسبة تفوق 70% من احتياجاتها المائية .
وفي العقل الاستراتيجي الباكستاني، فإن إستخدام المياه كورقة ضغط قد لا يُعد مجرد خلاف دبلوماسي، بل يرقى إلى إعلان حرب غير مباشر، مما يجعل من ملف المياه أحد أكثر الجبهات حساسية وقابلية للانفجار في أي سيناريو تصعيد .
• تحالفات كبرى تتحرك في الخفاء
لا تقف الأزمة في حدود نيودلهي وإسلام آباد، بل تشد خيوطها إلى قوى إقليمية كبرى .
الصين، الحليف التقليدي لباكستان، تتابع الموقف بحذر، خاصة وأن “ الممر الاقتصادي الصيني – الباكستاني ” يمر عبر أراضٍ محل نزاع، ما يجعل بكين لاعباً غير مباشر في معادلة التوتر .
من جهتها، تحاول روسيا أن تلعب دوراً متوازناً بين الجانبين، مدفوعةً برغبتها في الحفاظ على مصالحها في جنوب آسيا دون الانحياز الكامل لأي طرف .
أما الولايات المتحدة، فتسعى من خلال قنواتها الدبلوماسية إلى احتواء الأزمة، مدركةً أن أي تصعيد نووي في هذه البقعة سيعيد تشكيل النظام الدولي بأكمله .
•الهند وعقيدة “ الضربة الوقائية ”
تحت قيادة حكومة قومية ذات توجهات صلبة، تتبنى نيودلهي خطاباً جديداً يقوم على ما تسميه “ العقيدة الهجومية ”، والتي تروج لفكرة أن الضربة الوقائية قد تكون مبررة في حال توافر معلومات استخباراتية مؤكدة عن هجوم إرهابي وشيك .
هذه العقيدة لا تُعد فقط تحولاً في السياسات الدفاعية، بل تمثل نقلة نوعية في فلسفة الردع الهندي، وتفتح الباب على احتمالات “ الضربة الأولى ”، ما يعني أن قرار الحرب قد يُبنى على تقديرات استخباراتية، لا على وقائع ميدانية، وهو ما يزيد هشاشة الأمن الإقليمي بشكل خطير .
كشمير…
الجرح المفتوح الذي لا يندمل
منذ أن انقسمت شبه القارة الهندية عام 1947، ظلت كشمير بؤرة النزاع المشتعلة، ولبّ التوترات بين الجارتين النوويتين :
الهند وباكستان .
ثلاث حروب كبرى اندلعت بسبب هذه الرقعة الجبلية الساحرة، التي تحولت إلى ساحة صراع لا تنتهي .
تسيطر الهند على نحو 55% من الإقليم، فيما تحكم باكستان ما يقارب 30%، وتدير الصين النسبة المتبقية .
لكن خارطة النفوذ لا تعكس واقع القلوب ولا تعبر عن صرخات الأرض .
فأغلبية سكان كشمير مسلمون، يعيشون تحت وطأة القمع الهندي، وفي الوقت نفسه يُستَخدمون ورقة سياسية في أجندات باكستان .
كشمير ليست مجرد نزاع حدودي، بل مأساة إنسانية مستمرة، ومرآة تعكس فشل العالم في إنصاف الشعوب المقهورة .
هي الجرح المفتوح في قلب آسيا، ينزف بصمت، ويتنفس بألم، في انتظار عدالة غائبة وسلام مؤجل .
العالم يراقب…
وأبواب الحرب تُطرق بعنف
في مشهد يختلط فيه القلق بالحذر، تتجه أنظار العالم نحو كشمير، حيث تتصاعد التوترات كأنها نذر عاصفة قادمة .
دعوات متكررة تصدر من الأمم المتحدة، والولايات المتحدة، وبريطانيا، تحث على ضبط النفس وتفادي التصعيد .
لكن الواقع أكثر تعقيداً من تلك البيانات الدبلوماسية .
كل خطأ في التقدير، وكل شرارة غير محسوبة، قد تتحول إلى حريق شامل، يصعب احتواؤه وقد يجرّ المنطقة بأكملها إلى أتون حرب مدمرة .
فالصمت الدولي أمام المعاناة المزمنة، والتعامل البارد مع جراح كشمير، يفتح الأبواب على مصراعيها لسيناريوهات كارثية .
إنها لحظة حرجة تتأرجح فيها المنطقة على حافة الهاوية، والعالم كله يراقب، لكنه لا يتدخل بما يكفي لمنع الانهيار .
الحل الاستراتيجي…
بين واقعية المصالح وعدالة المصير
لم تعد أزمة كشمير تحتمل المزيد من الدوران في حلقات مفرغة من الإدانات والتصريحات، ولا مناورات المصالح الضيقة .
فالحل الجذري لا يكمن في موازين القوى، بل في ميزان العدالة .
ولا تُحل القضايا المصيرية بالشعارات، بل بإرادة إستراتيجية تملك الشجاعة لتقديم الحلول لا تأجيل المأساة .
المدخل الحقيقي نحو تسوية تاريخية يبدأ باعتراف صريح من المجتمع الدولي بأن كشمير ليست مجرد أرض متنازع عليها، بل شعب ممزق بين حدود ثلاث دول، يعيش منذ عقود تحت الاحتلال والقمع والتغييب .
إنها قضية تقرير مصير لا خلاف حدود، وصراع وجود لا نزاع نفوذ .
تتطلب المعالجة الاستراتيجية خطوات متدرجة ولكن متكاملة :
وقف شامل لكل أشكال الانتهاكات والعنف؛ إطلاق حوار سياسي ثلاثي تشاركي، بين الهند وباكستان والممثلين الشرعيين للشعب الكشميري ؛ وإشراف دولي حقيقي يضمن حيادية العملية، ويهيئ الظروف لاستفتاء حر ونزيه، يُعبّر فيه الكشميريون عن إرادتهم دون ترهيب أو توجيه .
كما ينبغي فتح الإقليم أمام الإعلام والبعثات الحقوقية، وكسر التعتيم المفروض، حتى يسمع العالم أصوات الذين لا صوت لهم .
إن الحل ليس بذخاً سياسياً، بل ضرورة إنسانية. وهو ممكن، لكن بشرط :
أن تتحلى الأطراف بالإرادة، وأن يستفيق الضمير العالمي من سباته المزمن .
فكشمير لا تحتاج إلى بيانات تضامن، بل إلى عدالة تنقذها من جحيم الصراع وتُعيد لشعبها حقه الطبيعي في الحياة والحرية والسلام .
الخلاصة :
هل يمكن احتواء النار قبل أن تلتهم الجميع؟
لم يعد الصراع بين الهند وباكستان مجرّد نزاع حدودي تقليدي، بل تحوّل إلى أختبار حرج لمعادلة الردع النووي، ومسرح معقّد تتشابك فيه خيوط التحالفات الإقليمية، وصراعات الهوية، والمقدسات، والموارد المائية، والتاريخ المثقل بالدم والدموع .
إنها ليست مواجهة بين دولتين فقط، بل بين رؤيتين للعالم، وبين شعب أعزل يُمزّق بين طموحات الجغرافيا وحسابات السياسة .
وكل خطوة تصعيد، مهما بدت صغيرة، تقرّب المنطقة من حافة هاوية لا قاع لها .
والسؤال الذي يتردّد بصوتٍ أعلى مع كل لحظة توتر :
من يملك الشجاعة لوقف الانزلاق؟
ومن يستطيع أن يطفئ النار قبل أن تتحول إلى طوفان؟
إن احتواء الكارثة ما زال ممكناً، لكن النافذة تضيق، والزمن ينفد .
كاتب يمني