محمد عزت علي الشريف: أزمة الكيان الوجودية بعد السابع من أكتوبر

محمد عزت علي الشريف: أزمة الكيان الوجودية بعد السابع من أكتوبر

محمد عزت علي الشريف

 

لم تَعُد معادلة الصراع اليوم كما كانت في ذي قبل.. فلم يعد طرفا الصراع هما ذات الطرفين في المعادلة التي تغيرت وانتقلت بعض عناصرها من الطرف الأول إلى الطرف الآخر كقيمة مضافة موجبة. ولو بقيت في طرفها الأول اليوم لاعتبرناها قيمة سالبة مخصومة من بقية عناصر طرف المعادلة الأول.
فلم يعد طرفا معادلة الصراع في فلسطين اليوم هما كل جيوش العرب في طرف، والجيش الصهيوني المحتل وداعموه في الطرف الآخر.
فالمُطبِّعون العرب المرتهنون لجيوش بلدانهم على سبيل المثال لم يظلوا قيماً مضافة إلى طرف الجيوش العربية التقليدي اليوم بل ولم يظلوا قيماً مهملة، بل أصبحوا قيماً مضافة إلى طرف جيش الحرب الصهيوني والداعم الأمريكي والغربي.
والحقيقة أن الصهاينة المحتلين بعد التطبيع مع بعض الأنظمة العربية المنبطحة وتداعيات ذلك التطبيع والتي منها صولة السابع من أكتوبر؛ أقول أنّ الصهاينة المحتلين جعلوا الصراع  صراع وجود بينهم، و بين قوى المقاومة العربية و الإسلامية الفاعلة ؛ و يعتبرون الآن أنّ كل ما عدا تلك المقاومة المبدئية الأصولية الشرسة فأمره هيّنٌ و يسير، ولا عزاء لأنظمة المطبعين وحكوماتهم وكتائب جيوشهم النظامية.
  و لهذا نجد أن   الصهاينة بعد السابع من أكتوبر باتوا لا يتحدثون عن تحقيق نصرٍ على العرب كما كانوا في السابق، بل يتحدثون عن تحقيق النصر على قوى المقاومة في غزة و فلسطين و كل جبهات الإسناد – ومن ثم ما لبثوا أن تحدَّثوا عن هدفٍ آخرَ أكبر، و أعمقَ، و هو القضاء على حركة المقاومة الإسلامية حماس، وكل حركات المقاومة والسرايا الجهادية المتعاونة معها في غزة، مع نزع سلاح حزب الله في لبنان، و تفكيك كتائبه و خلاياه، والقضاء على كل أركان التنظيم الذي  كان ولا زال له طويلُ باعٍ  في تحرير الأرض العربية  المحتلة؛ سواء في لبنان عام2000/ أو في غزة كجبهة إسناد و ردع منذ اليوم التالي لبدء طوفان الأقصى.
لقد بات الصهاينة المحتلون  بعد السابع من أكتوبر يدركون أنه لا دولة مأمولة و مأمونة لهم في ظل مقاومة قوية، و نِدِّيّة كتلك التي يتقاتلون معها اليوم.
لقد كان أمام الصهاينة منذ بداية احتلالهم الأرض – نظرياً – ثلاثة مسارات  على طريق تنظيم العلاقة بينهم كمحتلين و بين أصحاب الأرض العربية من الفلسطينيين.

أول المسارات: و يُفضي في نهايته إلى إقامة  دولة واحدة على الأرض الفلسطينية بقيادة صهيونية، و هو ما قصدت إليه دولة الاحتلال منذ البداية، و قد بدى واضحاً صعوبة تحقيق ذلك الهدف بعد صولة السابع من أكتوبر المباركة التي قضت على أسطورة الردع الإسرائيلي و فرضية ” الجيش الذي لا يُقهَر”.

ثاني المسارات: ويُفضي إلى إقامة دولة واحدة بقيادة عربية، و ذلك المسار تراه الدولة الصهيونية مستبعداً لأنهم من الأساس جاؤوا إلى تلك الأرض لإقامة دولة أبدية لهم على خلفية مزاعم وهمية غير موجودة إلا في أدمغتهم وحدهم.

ثالث المسارات: ويُفضي إلى ما اتفق على أفضليته  كثير من  الساسة و وصفوه ب “حلّ الدولتين”.

و رغم بساطة و وجاهة القول بـ” حل الدولتين” إلا أن تنفيذه هو الأصعب من بين كل الحلول، إذ أنه حلٌّ لا يتفق عليه اثنان من الأطراف المعنية بمسارات القضية، و هذا ما يحتاج لبعض تفصيل:
لو كان طرفا الاتفاق على سبيل المثال هما الحكومات العربية من جهة، و الصهاينة من جهة أخرى، فسنجد قبولا لـ “حل الدولتين” من الطرف العربي و رفضاً من الطرف الصهيوني.
 أمّا إذا دخلت قوى المقاومة كطرف في أيّ اتفاق فلن يكون اتفاقٌ من الأساس، إذ أن المقاومة أهدافها واضحة، و ثابتة، و مبدئية ، و رجالها يرفعون على الدوام شعار ” الأرض، كل الأرض، من النهر إلى البحر”، و لهذا فإن من أولويات إسرائيل أن تتفادى  المقاومة العربية كطرف ثانٍ في أيّ اتفاق.
إنّ من الأهداف الغير معلنة من قِبَل دولة  الاحتلال أنهم يعلمون أنهم سيضطرون في آخر المطاف إلى الجلوس مع طرف عربي للتفاوض بخصوص تفاصيل اتفاق “حل الدولتين” و هم لا يتمنون أبداً أن يكون الطرف الثاني على طاولة المفاوضات هو: قُوَى المقاومة العربية الإسلامية الأصولية التي لا يُرجى منها أي تنازل عن شبر واحد من الأرض.
و هذا ما يجعل المعادلة الآن صفرية، إما إنهاء الاحتلال، و إما إنهاء قوى المقاومة، والاستفراد بالحكومات العربية الخاضعة والخانعة وممارسة كل الضغوط عليها للقبول بإقامة دولة – صورية –  للفلسطينيين على حدود ما بعد هزيمة 1967 بشروطِ و وِصاية دولة الاحتلال.
  أعلمُ أن المسار الأول المفضي إلى حل الدولة الواحدة بقيادة اسرائيلية لم يأخذ حقه – عند هذا الحدّ – من التوضيح و البيان، و أعلم أنه قد يتساءل سائلٌ ما الذي يجبر دولة الاحتلال القوية بترسانتها العسكرية – أصلاً – على التخلي عن هذا المسار الذي يفضي إلى حل الدولة الواحدة بإدارة اسرائيلية؟!.
   و هل من المعقول أنّ صولة السابع من أكتوبر و تداعياتها وحدها هي ما يُمكن أن يُجبر دولة الاحتلال على التخلي عن أحلامها في إقامة دولة يهودية لها على أرض عربية إسلامية؟!.
  و أنا هنا أُجيبُ السائلَ بتساؤل:
أيُّ دولة تلك التي يمكن أن يُقِيمَها  الاحتلال – هل يُقيمُها دولةً ديمقراطية يحكمها الأغلبية – أم يقيمها دولة دكتاتورية عنصرية يحكمها الأقلية؟
هل تعلم أيها السائل ما أقول لك عن آخر الإحصائيات عن تعداد سكان العرب الفلسطينيين داخل حدود فلسطين التاريخية – بالمقارنة بالمحتلين اليهود؟
  إن من حُسن الطالع و تدابير القدر أن يأتي السابع من أكتوبر في سنةٍ يمكنني اعتبارها سنة أساس يُنسب إليها تعدادات السكان للفلسطينيين ولليهود في أي عام من الأعوام السابقة أو التالية؛ سواء داخل أرض فلسطين التاريخية ، أو خارجها.
  وإذا ما سألتني لماذا اعتبرتها سنة أساس؟ سأجيبك بأنها السنة التي تساوى فيها عدد اليهود مع عدد الفلسطينيين على وجه التقريب، سواء في داخل فلسطين، أو في خارجها.
     فمثلاً لو قلنا كم كانت نسبة عدد اليهود إلى عدد الفلسطينيين في العالم سنة 2023 فالنسبة أقرب أن تكون 1:1
  و لو ذهبنا إلى تصنيف آخر فسنجد في ذات العام أن النسبة بين الفلسطينيين و اليهود داخل حدود فلسطين التاريخية هي أيضاً 1:1
و إذا علمنا أن نسبة الزيادة السكانية للفلسطينيين دوماً كانت أعلى من نسبتها لدى اليهود فيمكنك بسهولة ان تستنتج أن صولة السابع من أكتوبر 2023جاءت – قدراً – في توقيت “النقطة صفر”، حيث أنك لو قست الفارق بين عدد  اليهود و عدد الفلسطينيين في تلك السنة ستجد الناتج صفراً؛ سواء على مستوى العالم أو داخل حدود فلسطين التاريخية، و من ثم لو قست الفارق قبل 2023 ستجده لصالح اليهود و ما بعد سنة الطوفان تلك فإنك ستجد النسبة لصالح العرب الفلسطينيين.
فلقد جاء في آخر الإحصائيات الفلسطينية و الاسرائيلية على السواء  أن عدد الفلسطينيين الآن داخل حدود فلسطين التاريخية بلغ 7 ملايين، بينما عدد اليهود هو 6.8مليون، فإذا علمنا أن نصف هذا العدد كان قد جاء مهاجراً من مختلف دول العالم في تسعينيات القرن الماضي، فستعطينا تلك المعلومات مؤشراً على مدى الزيادة السكانية للفلسطينيين عن اليهود على ذات المساحة من الأرض.
  و ذلك المؤشر السكاني المرتفع للفلسطينيين يمكن أن يجعلهم في السنوات القليلة القادمة – بحكم أكثريتهم –  يحكمون أي دولة “ديمقراطية” على أي حدود داخل فلسطين التاريخية؛ إذ أنهم سيمثلون الأغلبية  في مقابل اليهود الذين سيمثلون الأقلية، و تشير كل المؤشرات باتساع الفارق في التعداد لصالح الفلسطينيين العرب عاماً بعد عام.
هنا، وهنا فقط يمكننا فَهم ما قلناه بخصوص إمكانية انتقال دولة الاحتلال طواعية من المسار الأول الخاص بإقامة دولة واحدة بإدارة ديمقراطية وحكومة منتخبة من الأكثرية – إلى المسار الثالث المُفضي إلى حلّ الدولتين؛ قبل أن يجدوا أنفسهم مجبرين على العيش في كنف دولة واحدة بقيادة عربية.
  و لكن هل يمكن أن تقبل قوى المقاومة الأصولية العقائدية بحل الدولتين الذي ستضطر إليه في حينها دولة الاحتلال؟
هيهات.. ثم هيهات لأصحاب الأرض أن يقبلوا العَرض و هم الأغلبية في الدولة الديمقراطية، وهم الأكثر عدداّ والأجمل صبراً والأقوى صموداً وجلَداً وعقائدية على الأرض العربية.
و هُمُ أهلُ تلك الأرضِ.. وحُماةُ العِرضِ
ولَهُمُ حقوقٌ شرعية .. ولديهم سَنَدٌ بالمِلكية.

أديب وكاتب رأي مصري