لو وقف عمر.. لانكشفت العورات.. وسقطت الأقنعة

لو وقف عمر.. لانكشفت العورات.. وسقطت الأقنعة

 

ا. د. هاني الضمور

ما أشد خذلان هذا الزمن… زمن تُكرَّم فيه الخيانة وتُهاجم فيه الكرامة، زمن يُلاحق فيه صوت الحق، بينما يُرفع الخائن على المنابر، وتُمنح له الألقاب، ويُصفَّق له كأنه أنقذ الأمة من غرقها، وهو في الحقيقة أحد الذين ثقّبوا سفينتها.
لو عاد عمر بن الخطاب، لاشتدّ عليه الصدر، لا ضيقًا من كثرة أعداء الأمة، بل من وجوه أولئك الذين لبسوا ثوبها، وتكلموا بلسانها، وخانوها باسم مصالحها. كان سيرى أعلامًا مرفوعة، لكنها لا تستر خيانة، ورايات ترفرف لا تحمل إلا الذل. كان سينظر إلى عواصم العرب، فلا يجد غير صمتٍ معطوب، وخطابٍ يبرّر، ومصافحاتٍ تُسلّم القدس قربانًا للعدو.
عمر، الذي كانت الكلمة عنده لا تنفصل عن الفعل، لم يكن ليسمع اليوم تبريراتهم عن “التعايش” و”الحلول السلمية” دون أن يهدر في وجوههم: أين أنتم من الأرض التي نطق فيها التكبير أول مرة؟ أين أنتم من الدماء التي سالت على أسوار القدس؟ من أنتم لتمنحوا العدو شرعية لم يمنحها الله؟
لن يجلس عمر معهم على طاولة واحدة، ولن يتبادل معهم المجاملات، ولن يصغي لمحاضراتهم الباردة عن الواقع والمصالح والتوازنات. لن يراهم سوى خنجرًا صدئًا في خاصرة أمة كانت يومًا لا تعرف الركوع إلا في الصلاة. كان سيقتلعهم من صفوف الأمة كما يُقتلع الداء من الجسد، لا تأنيبًا، بل تطهيرًا.
من ذا الذي يجرؤ على تزييف الوقائع أمام عمر؟ من الذي يستطيع أن يقول له: “نحن لم نخن، بل اجتهدنا”؟ وهل يمر الاجتهاد من بوابة التطبيع، ويمضي عبر سكاكين الخذلان، ويبيت في أحضان المحتل؟ كانوا سيهربون من عينيه قبل أن يفتح فمه، لأن الحقيقة في حضرته لا تحتاج إلى تبرير، ولأن الخيانة في مجلسه تُقطع قبل أن تُقال.
لم يكن ليتسامح مع صمت مريب يُغطى بشعارات براقة، ولا مع نفاق يرتدي عباءة الدين، ويبيع المواقف تحت عنوان الفقه السياسي. عمر لا يعرف هذا الفقه. عمر يعرف الحق، ويقف معه، ويمضي به حتى لو بقي وحده.
لو وقف عمر اليوم، لما مدّ يده ليصافح خائنًا، بل رفعها على رقاب الذين جعلوا من القضية سلعة، ومن الشهداء جسرًا للمنصب، ومن المسجد الأقصى ورقة ضغط في بازار السياسة. كان سيخلع عنهم كل ما لبسوه من ألقاب ومظاهر، ويسميهم بأسمائهم، ويقول للأمة كلها: هؤلاء من باعوكم، فلا تتبعوهم.
لكن عمر لن يعود، وهذا هو المصاب الأكبر. بقيت الأمة يتيمة، تتأمل صورته في كتب التاريخ، وتبكي على قبره، بينما تدفع بأبنائها ليصفقوا لمن باع دماء إخوتهم، ويتفاخروا بمن طبع وخان وتواطأ وتنازل. من ذا الذي أقنع هذه الأمة أن الصمت حكمة، وأن التسليم فطنة، وأن الجبن سياسة؟ من جرّدها من روح عمر؟ من طمس معالم العدالة في قلوب رجالها، حتى صار الظالم يُحترم، والخائن يُكرَّم، والمجاهد يُخوَّن؟
إن بقي هذا الحال، فلن نحتاج لأعداء من الخارج، فكل طعنة تأتي من الداخل… وكل سقوط يبدأ بخيانة، وكل خيانة تبدأ بوجه مألوف، وكلمة ناعمة، وراية ملوّنة… ثم تنتهي بخسارة لا تبررها كل شعارات العالم.
اللهم لا تذرنا في هذا الزمان بلا عمر… ولا تذر الأمة تحت رحمة من لا يعرف للحق سبيلاً، ولا للكرامة طريقاً.
كاتب اردني