قراءة في تداعيات التفاهم النووي الإيراني-الأمريكي على توازنات المنطقة

قراءة في تداعيات التفاهم النووي الإيراني-الأمريكي على توازنات المنطقة

د. علي جمعة العبيدي
في خضم التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي تعيد رسم خريطة النفوذ العالمي، تبرز المفاوضات النووية الجارية بين طهران وواشنطن كمحطة مفصلية تنذر بتغييرات جذرية في النظام الإقليمي للشرق الأوسط. ففي ظل تصاعد التنافس الأمريكي الصيني وتداعيات الأزمة الأوكرانية التي ألقت بظلالها على أسواق الطاقة والاقتصاد العالمي، يكتسب أي تفاهم نووي محتمل بين إيران والولايات المتحدة أبعادًا استراتيجية تتجاوز الملف النووي ذاته، ليمتد تأثيره ليشمل قضايا أمن الطاقة، ومستقبل الصراعات الإقليمية المعقدة، وديناميكيات التنافس الدولي المتصاعدة، والمعادلات الأمنية الهشة، والاقتصاديات المتشابكة في دوامة الحرب والسلام.
ولفهم دلالات هذه اللحظة الراهنة، لا بد من استحضار التحولات العميقة التي طرأت على المشهد الاستراتيجي منذ توقيع اتفاق عام 2015. فإيران اليوم ليست هي إيران الأمس؛ فقد نجحت في امتلاك أوراق ضغط غير مسبوقة تعزز من موقعها التفاوضي، بدءًا من التقدم الملحوظ في برنامجها الصاروخي الذي يمنحها عمقًا استراتيجيًا متزايدًا، مرورًا بتوسيع شبكة تحالفاتها الإقليمية التي تمتد نفوذها في ساحات صراع متعددة، وصولًا إلى تعزيز شراكاتها الاستراتيجية مع قوى صاعدة مثل الصين وروسيا، مما يوفر لها دعمًا سياسيًا واقتصاديًا في مواجهة الضغوط الغربية. ولا يمكن إغفال وصولها إلى مستويات تخصيب متقدمة تقترب من عتبة صنع السلاح النووي، بالإضافة إلى نفوذها المتعاظم في ممرات مائية حيوية كمضيق هرمز الذي يمثل شريانًا حيويًا لإمدادات الطاقة العالمية.
في المقابل، تجد الإدارة الأمريكية نفسها أمام تحديات داخلية وخارجية معقدة تدفعها نحو البحث عن حل دبلوماسي مع إيران. فأزمة الطاقة العالمية المتفاقمة، ومعدلات التضخم القياسية في الداخل الأمريكي، وحدة التنافس الاستراتيجي مع الصين الذي يستنزف جزءًا كبيرًا من اهتمام وموارد السياسة الخارجية الأمريكية، بالإضافة إلى الاستنزاف الناتج عن الحرب في أوكرانيا، كلها عوامل تجعل من العودة إلى اتفاق نووي معدل خيارًا استراتيجيًا مطروحًا بجدية على طاولة صناع القرار في واشنطن.
وفي هذا السياق المتشابك، تتبلور ثلاثة مسارات تفاوضية محتملة. الأول يتمثل في سيناريو “الاتفاق الشامل المعدل” الذي يسعى إلى عودة الولايات المتحدة إلى اتفاق 2015 مع إدخال تعديلات تعالج بعض المخاوف الأمريكية والإقليمية، بما في ذلك رفع جزئي للعقوبات مقابل قيود على البرنامج الصاروخي وآلية لمراقبة الأنشطة الإقليمية الإيرانية. أما السيناريو الثاني، فهو “التفاهم الجزئي” أو “الاتفاق الأقل مقابل الأقل”، ويركز على تحقيق تفاهمات مؤقتة ومحدودة تتضمن تجميد التخصيب مقابل إفراج مالي محدود وتسهيلات نفطية جزئية. بينما يمثل “سيناريو الانهيار الكامل للمفاوضات” الاحتمال الأكثر خطورة، حيث قد يدفع إلى تصعيد نووي إيراني وردود فعل تصعيدية إقليمية قد تشمل استهداف الملاحة الدولية.
ولأي من هذه السيناريوهات المحتملة تداعيات إقليمية عميقة. فإسرائيل تجد نفسها أمام معضلة وجودية بين القبول باتفاق قد لا يلبي جميع مطالبها الأمنية أو التفكير في خيار عسكري محفوف بالمخاطر. وفي المقابل، تتأرجح دول الخليج بين محاولة التكيف مع الواقع الجديد أو تبني مواقف أكثر تحفظًا، بينما تسعى قوى إقليمية مثل تركيا إلى تعظيم مكاسبها في ظل أي تحولات محتملة.
وعلى الصعيد الاقتصادي، يمثل النفط الإيراني عنصرًا حاسمًا في المعادلة، حيث يمكن لعودته الكاملة إلى الأسواق أن تؤثر بشكل كبير على أسعار الطاقة العالمية. ومع ذلك، لا يزال الطريق إلى أي اتفاق نووي محفوفًا بالمخاطر والتحديات، بدءًا من مقاومة الكونجرس الأمريكي، مرورًا باحتمالات التصعيد الخفي وانهيار الثقة، وصولًا إلى التدخلات الإقليمية التي قد تسعى لتقويض أي تفاهم.
في خضم التنافس الجيوسياسي الذي باتت تشهده المنطقة على نحو غير مسبوق، لا يمكن قراءة المفاوضات النووية الجارية بين طهران وواشنطن بمعزل عن صراع النفوذ الأكبر الذي يتقاطع فيه ما هو أمني بما هو اقتصادي وتكنولوجي، ويتشابك فيه ما هو استراتيجي بما هو رمزي وسردي، ذلك أن ساحة الشرق الأوسط لم تعد، منذ سنوات، حكرًا على الثنائية التقليدية المتمثلة في الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، بل غدت مسرحًا مفتوحًا لفاعلين دوليين جدد، تتقدمهم الصين، التي لم تكتفِ بلعب دور الشريك الاقتصادي الصاعد، بل أخذت تتسلل بهدوء إلى صميم المعادلات الحساسة التي طالما اعتُبرت حكراً غربياً بامتياز، وفي طليعتها أمن التكنولوجيا والبنى التحتية الحيوية.
لقد ظلّت الولايات المتحدة لعقود تعتبر الخليج مجالها الحيوي الآمن، تتحكم في معادلات أمنه، وتعيد ضبط توازناته، وتوجه استثماراته الكبرى نحو مصارفها ومجمعاتها الصناعية الدفاعية، غير أنّ ما شهدته السنوات الأخيرة من تراجع نسبي في الالتزام الأمريكي المباشر، وتحوّل واشنطن نحو آسيا لاحتواء الصين، ترك فراغًا كانت بكين الأسرع إلى ملئه، لا من خلال الجيوش، بل عبر التجارة، ورؤوس الأموال، ونقل التكنولوجيا، وتوقيع الشراكات بعيدة المدى. هذا الانخراط المتزايد جعل من بكين اليوم أكبر شريك تجاري لمجلس التعاون الخليجي ككتلة واحدة، في وقت بدأت فيه حكومات الخليج تنظر للصين ليس فقط كخيار تنموي، بل كضامن تكنولوجي بديل، خصوصًا في مجالات باتت تمسّ العمق الأمني الغربي، كشبكات الجيل الخامس (5G)، والبيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي، وهي تقنيات ذات طابع مزدوج مدني/عسكري لا تخلو من حساسية إستراتيجية قصوى.
في هذا السياق المتشابك، يصبح التفاوض النووي مع إيران، من منظور أمريكي، أكثر من مجرد محاولة لضبط البرنامج النووي، بل مدخلاً لإعادة صياغة ميزان النفوذ مع الصين في المشرق. فالخشية الأمريكية لا تتعلق فقط بامتلاك طهران لعتبة نووية، بل بما قد تمنحه بيئة رفع العقوبات من فرصٍ إضافية لبكين لتعميق شراكاتها مع طهران ودول الجوار في مشاريع البنية التحتية، والمرافئ، والممرات اللوجستية العابرة للقارات، الأمر الذي قد يجعل من إيران والصين محورًا استراتيجيًا يصعب تطويقه في المدى المنظور.
ومما يزيد هذه المخاوف الأمريكية إلحاحًا هو أن بكين، على عكس موسكو، لا تنخرط في المواجهات المسلحة المباشرة، لكنها تُحدث تحولات زلزالية في الترتيب الاستراتيجي العالمي بصمت، عبر الاقتصاد والربط والتكنولوجيا، وهو ما بدأت دول الخليج تدركه ببراغماتية مفرطة، خاصة في ضوء تراجع ثقتها بالضمانات الأمريكية التي بدت مهتزة في أكثر من محطة، من العراق إلى سوريا، ومن أفغانستان إلى أوكرانيا.
لكن هذا الانخراط الصيني، رغم هدوئه الظاهري، لا يخلو من تداعيات صدامية، ليس فقط مع واشنطن، بل حتى داخل المنظومات الخليجية نفسها، التي باتت مطالبة اليوم بالاختيار بين حليف أمني غربي تقليدي، وشريك اقتصادي شرقي صاعد. ووسط هذه المعادلة، يُنتظر أن تمارس واشنطن المزيد من الضغوط الناعمة والصلبة على شركائها الإقليميين لدفعهم نحو بدائل “صديقة”، ككوريا الجنوبية واليابان، في محاولة لتقليص هامش المناورة أمام الصين، وتجفيف منابع تأثيرها في مجالات التكنولوجيا الحساسة.
هنا تتضح إحدى أهم دلالات المفاوضات النووية، فالأمر لا يتعلّق بإيران وحدها، بل بموقعها في صراع الهيمنة على التكنولوجيا، والطاقة، والممرات، والأسواق، والتوازنات الكبرى. وإذا كان هذا الملف قد مثّل في العقود الماضية ورقة تجاذب بين طهران وواشنطن، فإنه اليوم بات أحد مفاتيح الصراع بين واشنطن وبكين، في منطقة تُعاد هندستها على إيقاع التعددية القطبية، وتحت ضغط الحسابات المتشابكة ما بين أمن الطاقة، وحدود التكنولوجيا، وسرديات الهيمنة.
ولذلك فإن مستقبل المفاوضات النووية لا يجب أن يُقرأ فقط من زاوية العودة أو عدم العودة إلى الاتفاق، بل من خلال سؤال أكثر عمقًا: هل تستطيع واشنطن، في لحظة تراجع نفوذها التقليدي، أن تُعيد تعريف علاقتها بحلفائها في المنطقة بما يسمح لها بالتصدي لصعود الصين دون خسارة أدواتها القديمة؟ أم أنّ هذه المفاوضات ستكشف عن انتقال غير معلن لمركز الثقل الاستراتيجي في المنطقة، من واشنطن إلى توازنات أكثر تركيبًا تُعيد صياغة من هو “الحليف”، ومن هو “الخصم”، بل وربما من هو “الضامن” لمستقبل النظام الإقليمي؟
إنّها مفاوضات نووية في ظاهرها، لكنها في عمقها مفاوضات حول من يرسم شكل العالم الجديد.
السفير الليبي في إيران