سمير القنطار وأنا.. والدرزي ضابط أمن السجن

د. فايز أبو شمالة
عملاء العدو الإسرائيلي يتواجدون داخل كل الطوائف والمذاهب والقوميات في منطقة الشرق الأوسط، ففي أوساط الشعب الكردي المسلم السني، يتواجد عملاء لإسرائيل، ويتواجد عشاق فلسطين، مسلمون أكراد لا يعترفون بالدولة الإرهابية، وفي أوساط العرب المسلمين السنة يتواجد عملاء لإسرائيل، يقدسون التطبيع معها، ويصدقون الأكذوبة الإسرائيلية، وفي الوقت نفسه هناك عرب مسلمون سنة من ألد أعداء الصهيونية، حتى في أوساط أمازيغ البلاد العربية، هناك من باع نفسه للصهاينة، ومنهم من هو مستعد للتضحية بما يملك من أجل تحرير المسجد الأقصى، وهذا الفهم السياسي العام ينطبق على المسحيين الموارنة وغيرهم، فمنهم يمن يرفض أن تصافح يده يد الصهاينة، ومنهم من يستنشق عبق حائط المبكى بقداسة، حتى في أوساط الشعب الفلسطيني المسلم السني العربي يتواجد من يقدس التنسيق والتعاون الأمني مع المخابرات الإسرائيلية، وفي الوقت نفسه يتواجد بينهم من يقاوم الصهاينة بما يقدر عليه، وهذا الأمر ينطبق على الدروز العرب، فهناك من يتعاون ويتعامل ويقدس الصهيونية، ويرى بها الخلاص والخلود، وهناك من يحارب الصهيونية، ويرى أنها مصدر الشرور والخراب والفرقة في منطقة الشرق.
كراهية الصهاينة أو عشقهم ليس قرينة طائفة أو حزب أو مذهب أو ديانة، ففي كل مذهب وعقيدة وطائفة وقومية هناك من يرى بالصهاينة المخلص من عذاب البشر، وهناك من يرى الصهاينة مصدر الشرور على وجه الأرض، والطائفة الدرزية ليست استثناء، وهي التي أنجبت الشهيد كمال جنبلاط، وابنه وليد جنبلاط ومعظم دروز لبنان الشرفاء، الذين صاروا عناويناً للوطنية، والوفاء لفلسطين أرضاً وشعباً، وهي الطائفة نفسها التي تخرج منها المدعو أمين طريف، الذي شجع شباب الدروز على أن يصيروا جنودا ًصهاينة في الجيش الإسرائيلي، يحسبون أن طريقهم إلى الجنة تمر من فوق جثث الفلسطينيين.
وفي هذا السياق، فإن دروز سوريا ليسوا استثناءً، ففي الوقت الذي يتواصل بهجت الهجري مع الصهاينة، ويسعى لتمزيق سوريا، وإقامة دولة درزية كخط الدفاع الأول عن دولة الصهاينة، نجد آلاف القادة من الشعب العربي الدرزي، يدافع عن سوريا الموحدة، ولا يرى بدولة الصهاينة إلا عدواً للشعوب العربية بكل طوائفها ومذاهبها ومعتقداتها.
إنها الطائفة الدرزية التي لا تختلف بغدرها ووفائها عن بقية الطوائف والمذاهب والقوميات والملل والنحل في كل الدنيا، ففي كل طائفة ومذهب يوجد الصالح ويوجد الطالح، فدروز فلسطين الذي لوث انتماءهم لأمتهم أمين طريف، ظهر فيهم الشاعر العربي الفلسطيني الدرزي سميح القاسم كنموذج للعربي الدرزي الذي أعلن انتماءه للشعب الفلسطيني، ولأمته العربية.
وفي هذا الاستعراض الميداني للطوائف، لن أنسى الشهيد سمير القنطار، صديقي في غرفة 5 من قسم ج في سجن نفحة الصحراوي، إنه سمير القنطار العربي اللبناني الدرزي الذي التحق بالثورة الفلسطينية، وقاتل في صفوفها حتى وقع في الأسر، وحكم عليه بالسجن المؤبد.
لقد ساعدني سمير القنطار بالحصول على مبلغ 4000 دولار أمريكي، وأنا في سجن نفحة الصحراوي، فخلال سنة 1990 أعلن مركز إحياء التراث العربي عن جائزة بقيمة 4000 دولار، لأحسن دراسة نقدية على شعر الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود، وحدد المركز 6 أشهر لتقديم الدراسة.
شاركت في المسابقة، وأنهيت الدراسة في الموعد المحدد، واخترت لها عنوان: على صهوة الشعر للشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود.
وكانت المشكلة لدي في ذلك الوقت، كيف سأخرج الدراسة من سجن نفحة الصحراوي، وإيصالها إلى مركز إحياء التراث العربي في الطيبة، داخل فلسطين 1948.
وفي لحظة تفكير وتدارس الأمر مع سمير القنطار، لمعت الفكرة في رأسه، فقال:
سنخرجها عن طريق ضابط الأمن في السجن!
هذا تفكير جنوني يا سمير! ماذا تقول؟
قال لي: لا تقلق: سأرتب الأمر.
وكان ضابط الأمن في سجن نفحة من الطائفة الدرزية ـ لا داعي لذكر اسمه ـ فقد نجح سمير القنطار بعلاقته الشخصية ان نزع فتيل العداء للحق الفلسطيني من صدره.
وفي اليوم التالي، وبعد أن خرج كل السجناء من الغرف إلى باحة السجن، انتظرت أنا وسمير القنطار في غرفة السجن حتى جاء ضابط الأمن الإسرائيلي الدرزي، وعرض عليه سمير القنطار فكرة إخراج الدراسة الأدبية من السجن
وبعد أن اطلع ضابط أمن سجن نفحة على الدراسة، وتأكد أنها تخلو من الموضوعات الأمنية، قال: سأخرجها، ولكن لي ثلاثة شروط:
قلنا: وما شروطك؟
قال: أولاً: لا يعرف بهذا العمل السري غيركما انتما الاثنين، حتى لا أتضرر.
الثاني: لن أسلم هذه الدراسة لأي مسلم عربي فلسطيني، خشية أن يعتقل بعد فترة، ويقول: تسلمت من أحد السجانين في سجن نفحة كتاباً، وأتحمل المسؤولية.
الثالث: اعملوا لي مجسماً لبرج إيفل، من مخلفات المعادن المتواجدة لدى الأسرى.
قلنا له: وافقنا
السر سيظل بيننا نحن الثلاثة، ولن تسلم أنت الدراسة لعربي، وما عليك إلا أن ترسلها عن طريق البريد إلى العنوان التالي، وسنوصي الأسرى بعمل برج إيفل.
قال: غداً سأحضر القوة، وأقوم بتفتيش أمني في غرف السجن، ضع الدراسة في هذا المكان القريب من برشك في الغرفة.
وهذا ما تحقق، لقد اقتحم ضابط أمن السجن الدرزي مع قوة من السجانين القسم بحجة التفتيش الأمني، وصادر عدداً من كراريس وكتب السجناء، ومن ضمنها الدراسة الأدبية المتفق عليها.
حمدت الله كثيراً، حين عاد ضابط أمن سجن نفحة إلينا بعد عدة أيام، وأومأ برأسه، إشارة إلى أنه أوصل الدراسة إلى العنوان المطلوب.
وكانت المفاجأة نهاية سنة 1991، حين جاء أحد المحامين إلى سجن نفحة، وطلب مني التوقيع على عقد، يسمح لمركز إحياء التراث العربي بالتفرد بنشر الدراسة، التي حصلت على الجائزة الأولى، وأضاف المحامي، وعليك أن ترسل من طرفك شخصاً يتسلم قيمة الجائزة 4000 دولار أمريكي، حيث سيقام احتفال مركزي على مسرح الحكواتي في القدس.
لقد طرت في ذلك اليوم بأجنحة الفرح خارج اسوار السجن، وزقزقت عصافير الشوق إلى تلك اللحظة التي ستخرج فيها ابنتي الصغيرة لتسلم الجائزة عن أبيها الذي انجز الدراسة وحيداً في سجن نفحة الصحراوي.
شكراً لسمير القنطار العربي الدرزي الوطني، الذي تحرر من الأسر بعد أن قرر الشهيد حسن نصر أن يحرر الأسرى اللبنانيين بالقوة، فكانت معركة لبنان الثانية سنة 2006، ليخرج على إثرها سمير القنطار من السجن قائداً في صفوف حزب الله، غير مبالٍ بالانتماء الطائفي أو المذهبي، فسمير القنطار وأمثاله من الشرفاء العرب لا ينتمون لطائفة ولا لمذهب ولا لقومية، هم عشاق فلسطين، ولا انتماء لهم إلا للحق والعدل والإنسانية.
رحم الله الشهيد العربي الدرزي سمير القنطار الذي كان مكلفاُ من قبل حزب الله على تنظيم المقاومة في جنوب سوريا، قبل ان تطارده الطائرات الإسرائيلية في مدينة جرمانة السورية سنة 2015، ليرتقي شهيدا.
كاتب فلسطيني/غزة