الشعب الأردني والديمقراطية: أهلية مشكوك بها أم حق مسلوب؟

د. معن علي المقابلة
يعيد هذا المقال قراءة التجربة الديمقراطية الأردنية منذ عام 1989، محللاً الأسباب التي حالت دون تطورها، ومفندًا مقولة أن الشعب الأردني غير مؤهل لحكم ديمقراطي حقيقي
تتردد بين الحين والآخر مقولة مفادها أن الشعب الأردني “غير جاهز” لحياة ديمقراطية كاملة، تتضمن انتخاب السلطة التنفيذية، سواء عبر اختيار مباشر لرئيس الوزراء من الشعب، أو من خلال تشكيل حكومة برلمانية منبثقة عن أغلبية نيابية. وما يدعو للأسف أن هذا الطرح يصدر أحيانًا عن شخصيات بارزة مقربة من النظام، ضمن ما يُعرف بـ”النخب”، ممن لهم مصلحة مباشرة في بقاء الأمور على حالها.
نظرة متفحصة لتاريخ الدولة الأردنية تكشف عن نمط واضح في تعيين المسؤولين؛ حيث غلب التوريث السياسي والإداري، حتى تشكلت طبقة متنفذة تمثل ما يُعرف اصطلاحًا بـ”الدولة العميقة”، تحتكر القرار وتقاوم أي تحول ديمقراطي يُهدد امتيازاتها، بل وربما يفتح الباب لمحاسبتها. ومع مرور الوقت، باتت هذه الطبقة تشكل عبئًا حقيقيًا على تطور الحياة السياسية، وأخشى أن الوقت قد تجاوز مرحلة الإصلاح التدريجي، وأصبح التغيير الجذري ضرورة للتخلص من هذه البنية الطفيلية.
في العقود الماضية، أظهرت الدولة عقلًا أكثر رُشدًا في الإدارة، خصوصًا من خلال دور دائرة المخابرات العامة في ضبط الجهاز الإداري وترشيده. لكن، ومع مرور الزمن، بدأ هذا الدور بالتراجع، ليس لصالح المؤسسات الرقابية المدنية كالقضاء والصحافة والبرلمان، بل لصالح البيروقراطية المتضخمة، التي استطاعت استقطاب الجهاز الأمني ذاته للمشاركة في مصالحها الخاصة، الأمر الذي انعكس على أداء الدولة ومصداقية مؤسساتها.
لقد ضيّع الأردن فرصة تاريخية بعد عودة الحياة الديمقراطية في عام 1989، وهي العودة التي جاءت استجابة لهبّة نيسان، والتي انطلقت من جنوب الأردن – المنطقة التي غالبًا ما يُشار إليها بأنها عشائرية ومحافظة وموالية للنظام. استجاب الملك الحسين حينها للضغط الشعبي، وأُجريت انتخابات نيابية نزيهة، هي الأفضل في تاريخ المملكة، وشكّلت علامة فارقة في الوعي السياسي الأردني.
تُظهر نتائج انتخابات 1989، المعروفة بانتخابات المجلس الحادي عشر، أن الشعب الأردني مارس حقه الانتخابي بوعي سياسي متقدم. في دائرة إربد الأولى مثلًا، انتُخب تسعة نواب يمثلون توجهات متنوعة: خمسة عن التيار الإسلامي، اثنان عن التيار اليساري، واثنان محسوبان على البيروقراطية التقليدية. وامتدت هذه التوجهات إلى الجنوب، حيث تصدر الإسلامي أحمد الكفاوين نتائج الكرك، وتلاه الشيوعي عيسى مدانات. وفي جرش ومعان والطفيلة والمفرق، انتُخب قوميون وإسلاميون يمثلون طيفًا واسعًا من التيارات الوطنية. كما انتُخب الشركسي المناضل منصور سيف الدين مراد، المعروف بدعمه للمقاومة الفلسطينية.
لقد استطاع الشعب الأردني، عبر قانون انتخاب عادل ونزيه، أن يفرز مجلسًا سياسيًا بامتياز، لا يزال يُذكر بإعجاب، خاصةً في جلسات مناقشة الثقة بحكومة مضر بدران، التي كادت أن تُسقطها، لولا التوافق مع نواب جماعة الإخوان المسلمين. هذا النموذج السياسي يعكس قدرة الأردنيين على انتخاب ممثلين حقيقيين يعبرون عن طموحاتهم، لو أُتيحت لهم الفرصة بقانون انتخاب عادل.
إلا أن هذه التجربة أقلقت النظام، الذي بدا أنه غير مستعد لمواصلة هذا المسار، خشية أن تفرز العملية الديمقراطية حكومات برلمانية قوية، وربما تُطالب بتعديلات دستورية تُفضي إلى تقليص صلاحيات القصر. فكانت أولى خطوات الالتفاف على هذه التجربة هي تعديل قانون الانتخاب واستحداث “الصوت الواحد”، الذي قسّم الدوائر ومزق النسيج الاجتماعي، وعزز الانتماءات العشائرية على حساب الانتماءات السياسية. والهدف كان واضحًا: منع تشكيل كتل مؤثرة قادرة على منافسة النظام أو التأثير في مسار الدولة.
وبالرغم من الاعتراضات الحزبية والسياسية على هذا القانون، إلا أنه لم يُلغَ، بل تم تجميله مرات متعددة بأشكال مختلفة كالقوائم الوهمية أو القوائم الوطنية، إلا أن جوهر “الصوت الواحد” بقي حاضرًا.
تحت ضغط داخلي وخارجي، شكل الملك عبد الله الثاني لجنة لتحديث المنظومة السياسية برئاسة سمير الرفاعي، رئيس الوزراء السابق الذي سبق أن أسقطه الشارع. ورغم اعتراضات واسعة على تركيبة اللجنة وغياب تمثيل حقيقي للأحزاب، فقد خرجت اللجنة بقانون انتخاب جديد يمنح الأحزاب 41 مقعدًا من أصل 138. وتمت انتخابات 2024 بناءً على هذا القانون، على أن يتم رفع نسبة المقاعد الحزبية إلى 50% في الدورة القادمة، وصولًا إلى تمثيل كامل. إلا أن هذا القانون لا يزال غير محصن دستوريًا، كما أن الملك لا يزال يحتفظ بحق حل البرلمان دون إبداء الأسباب، مما يُفرغ العملية السياسية من مضمونها.
إن التجربة الديمقراطية التي بدأت في 1989 كانت نواة حقيقية لبناء دولة مؤسسات وقانون، لولا تدخل النظام وتغوله على الحياة السياسية. أما الادعاء بأن الشعب غير مؤهل للديمقراطية، فهو ادعاء مردود عليه بالتجربة، والشعب الذي انتخب مجلسًا سياسيًا متنوعًا عام 1989 قادر على انتخاب مجلس حزبي يُشكل حكومة برلمانية.
أما التخوف من فوز حزب جبهة العمل الإسلامي، فهو ليس حجة كافية لتقييد الديمقراطية. وإذا كان الحزب قادرًا على الفوز، فليُمنح الفرصة ليُجرّب الحكم، فهذه هي الديمقراطية الحقيقية، وهذا من شأنه أن يحفّز باقي الأحزاب على تطوير نفسها ومنافسته، مما يُسهم في نضج الحياة السياسية.
في المحصلة، لا يجوز أن تبقى السلطة وصية على الشعب، تُقرر عنه من هو “مؤهل” ومن ليس كذلك. إن الإصرار على إبقاء نفس النخب التي فشلت في إدارة الدولة، وادعاء تمثيلها لمصالح الشعب، هو انحياز سافر للمصالح الذاتية، ويتناقض تمامًا مع مصلحة الوطن.
وأخيرًا، فإن التوجه نحو قانون انتخاب حزبي بالكامل، مع تعديل دستوري يجعل مجلس النواب سيد نفسه، غير قابل للحل إلا بانتهاء مدته، هو الطريق الوحيد لفرز نخب حقيقية تُعبر عن المجتمع وقواه الحية، بعيدًا عن الخطابات السطحية واللغة الهابطة التي تهيمن على المشهد النيابي الحالي، لقد آن الأوان لأن يستعيد الأردنيون زمام المبادرة، وأن يُعاد الاعتبار لصوت الشعب عبر قانون انتخاب عادل، يفرز نخبًا سياسية تعبر عن الواقع لا عن الامتيازات.
باحث وناشط سياسي/ الاردن
[email protected]