د. عبدالناصر سلم حامد: السودان واستهداف الدولة: عندما تصبح البنية المدنية ساحة حرب

د. عبدالناصر سلم حامد
عندما تصبح البنية التحتية بما فيها المستشفيات هدفًا والمخيم ميدانًا فالمقصود هو الإنسان و المحزن هنا صمت المجتمع الدولي لا اعتراض لا مساءلة.
فمنذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني و مليشيا الدعم السريع في أبريل 2023، لم يعد استهداف المدنيين والبنية التحتية حدثًا طارئًا بل تحول إلى أداة رئيسية في إدارة الصراع في المستشفيات المطارات و مخيمات النزوح وشبكات الكهرباء والمياه أصبحت أهدافًا ثابتة في خريطة القصف اليومي في مشهد يُعبّر عن سقوط الضوابط الاخلاقية للمليشيا وتحوّل السلاح إلى سياسة.
في مايو 2025، شنت مليشيا الدعم السريع هجومًا بطائرات مسيرة على مدينة بورتسودان المدينة التي تحولت الي عاصمة إدارية تدار منها شؤون الدولة السياسية و الاقتصادية بمسيرات انتحارية ما تسبب في توقف حركة الطيران لساعات واندلاع حرائق عطلت الإمدادات الحيوية. لم يكن الهجوم دفاعيًا ولا جزءًا من معركة مباشرة لبعد المنطقة من العمليات الحربية بل رسالة من الدعم السريع بأنه يده تطال كل شبر في الوطن بما فيها العاصمة الإدارية بورتسودان
يأتي الاستهداف بعد أسابيع فقط من مجزرة مروعة وقعت في مخيم زمزم للنازحين شمال دارفور قتلوخلالها أكثر من 400 قتيل غالبيتهم من النساء والأطفال سقطوا نتيحة القصف الذي استمر لأكثرمن شهر .
استهدفت المليشيا في يناير من العام الحالي 2035 استهدفت طائرة مسيّرة مستشفى الأمومة السعودية، فقتلت 70 شخصًاوبينهم نساء في حالة ولادة وأطباء وممرضون. لم يكن هناك أي نشاط عسكري في محيط المستشفى، ولا حتى ذريعة. ورغم أن الهجوم موثق بالصوت والصورة لا تحقيق لا عقوبات من المجتمعات امتلاك كل المعلومات ولا أثر حتى لنية المحاسبة فقط بيانات “قلق” ومزيد من الضحايا . ان السكوت لم يعد مفاجئًا. بل أصبح جزءًا من المشهد
ان تجاوزات مليشيا الدعم السريع تعتبر بموجب القانون الدولي الإنساني وتحديدًا اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الإضافية بان استهداف المدنيين أو المنشآت المدنية مثل المستشفيات والمخيمات ومرافق البنية التحتية يُعد جريمة حرب صريحة. وتنص المادة 18 من اتفاقية جنيف الرابعة على أن “المؤسسات المخصصة للعناية بالمرضى والجرحى والوقاية يجب احترامها وحمايتها في جميع الأحوال”. كما يحظر النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في مادته الثامنة “توجيه هجمات متعمدة ضد السكان المدنيين أو الأعيان المدنية”، ويعتبرها من أخطر الانتهاكات التي تستوجب الملاحقة القضائية. وبالنظر إلى طبيعة وتكرار الهجمات التي شنتها مليشيا الدعم السريع فإنها لا تندرج تحت أخطاء فردية أو أضرار جانبية بل تشكّل نمطًا ممنهجًا يمكن أن يُرقى إلى جرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة في حال ثبوت القصد السياسي والتطهير الممنهج.
التقارير الحقوقية، وعلى رأسها تلك الصادرة عن منظمتي هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، تؤكد أن هذه الحوادث ليست عشوائية. هناك نمط متكرر ويعتبر استهداف منهجي للبنية المدنية في المدن الخارجة عن السيطرة المباشرة.
و منذ بداية الحرب تم توثيق أكثر من 120 هجومًا على منشآت مدنية، بينها 15 مستشفى، 9 مخيمات نازحين، وعشرات المدارس ومراكز الخدمات. في مايو 2025، قدّم محامون دوليون ملفًا قانونيًا إلى وحدة جرائم الحرب في شرطة لندن، يتهم قيادة الدعم السريع، وعلى رأسها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، استنادًا إلى مبدأ المسؤولية القيادية الذي يُحمّل القادة مسؤولية الأعمال التي تُنفذ بتوجيهاتهم أو بعلمهم.
استمرار تدمير البنية المدنية في السودان لا يعني فقط كارثة إنسانية، بل تهديدًا للاستقرار الإقليمي. النزوح الجماعي، وانهيار الخدمات، وخلق مناطق خارجة عن السيطرة، قد يتحول إلى أزمة تتجاوز حدود السودان، وتنعكس على جيرانه وأمن البحر الأحمر. ومع غياب الردع، تترسخ سابقة خطيرة: أن القصف يمكن أن يُستخدم كأداة حكم.
الأثر لا يتوقف عند الدمار المادي. الأثر الأعمق هو النفسي والاجتماعي. عائلات هجّرت مرات متتالية، أطفال بلا تعليم، مجتمعات فقدت مراكزها الصحية وخدماتها الأساسية، ونساء فقدن الأمان والمساندة. هذا الجيل الناشئ، الذي لم يعرف سوى النزوح والقصف، ماذا سيكون مستقبله؟ في كل طفل بلا مدرسة، تتولد أزمة مقبلة لا تقل خطرًا عن الحرب الحالية. ما يجري اليوم ليس فقط تدميرًا لمدن أو منشآت، بل لتماسك مجتمع بأكمله. إنه تآكل طويل الأمد لأي إمكانية للاستقرار أو التعافي.
ورغم صدور بعض البيانات من دول مثل السعودية وقطر ومصر، تندد باستهداف المنشآت المدنية، فإن هذا التنديد لم يُترجم إلى تحرك فعلي. لا ضغوط دولية حقيقية، ولا إجراءات ملزمة لوقف الانتهاكات أو محاسبة مرتكبيها. هذا التجاهل يغذي مناخ الإفلات من العقاب، ويبعث برسالة أن قصف المدنيين يمكن أن يستمر بلا تكلفة سياسية أو قانونية.
السودان ليس أول بلد يُقصف فيه المدنيون، لكنه قد يكون الأول الذي تُفكك دولته بالكامل عبر استهداف بنيته المدنية، دون عواقب تُذكر. إذا لم يُرْدع هذا النموذج، فسيصبح قاعدة قابلة للتكرار، لا استثناءً. إن ما يحدث اليوم ليس مجرد صراع مسلح، بل هجوم شامل على مفهوم الدولة، وعلى المعايير الدولية ذاتها. في السودان، لم يُجرَّب السلاح فقط… بل الصمت أيضًا. وإن لم يُكسر هذا الصمت، فلن تكون الجريمة القادمة بعيدة.
لكن الأخطر من كل ذلك، هو أن النمط المتّبع في السودان قد يتحوّل إلى “نموذج غير مُعلن” تستخدمه أطراف مسلحة في صراعات أخرى. فإذا لم يُردَع استخدام الطائرات المسيّرة ضد المدارس والمستشفيات ومخيمات النازحين، فإن ساحات الحروب القادمة لن تفرّق بين ثكنة عسكرية ومركز طبي. سيصبح المدني الحلقة الأضعف دائمًا، وسيُكافأ من يمتلك التكنولوجيا، لا من يحترم القانون. إن غياب المحاسبة ليس مجرد ثغرة، بل حافز على التكرار. وإن لم تُشكل سابقة حازمة في السودان، فسنجد هذه الجرائم مكررة في دول أخرى، باسم ذرائع جديدة.
في هذا المشهد المعقّد، لا تملك الشعوب الضعيفة رفاهية الانتظار. ولا يملك العالم ترف الصمت. إن كانت الحرب تقرأ في عدد الضحايا، فإن السلم يُقاس بمن لا يُضرب، بمن لا يُهجّر، بمن تُحترم إنسانيته وهو بلا سلاح. والسودان اليوم يقدّم اختبارًا مفتوحًا لكل من يدّعي الدفاع عن القانون الدولي. والنتيجة… لا تزال معلقة.
كبير الباحثين ومدير برنامج شرق افريقيا والسودان في فوكس
باحث في اداره الازمات ومكافحه الارهاب