قصي الخفاجي: القصة العراقية القصيرة جدًّا في العراق قراءة في مجموعتي (قطط عارية) و(أن تنتظر لا شيء)

قصي الخفاجي
(1)
حيدر عبد المحسن.. أربع وثلاثون قصة قصيرة جدًا أول ما يرسخ في أذهاننا من القصة القصيرة جدًا هو (كثافتها العالية، وشعرية الصدمة، وإضاءتها العالية، حيث الولوج إلى دخيلة الفرد الأعزل بقدرات فنية لا يستهان بها، وحضور المكان، وسطوة الطبيعة ثم عزلة الكائن الحزين في قلب العالم..).
ومفتتح أقاصيص (حيدر عبد المحسن) بقصة (مَنْ يدري؟) إذ يشدنا حضور (ناتالي ساروت) بهذا (الأسكتش) الخالي من الحدث/ ولو أمعنا بجملتها الباذخة في (انفعالات) لأحالتنا جملة حيدر إليها (كانوا جميعا يلزمون الصمت/ يتوافدون وتعلو وجوههم الريبة) ثم (بثيابهم النظيفة، بأيديهم المحناة/ بوجوههم المشذبة اللحى/ يحملون البشارة ويتحدثون عن حفلة العرس) إني أحيل القارئ الحصيف للعودة إلى (انفعالات ساروت). يبدو أن حيدر عبد المحسن قارئ دقيق وممعن بقيمة الحداثة في القص/ إذ كلّنا تتلمذنا يوما على انفعالات ساروت.
ومدخلنا الثاني قصة (ما يلائم الحال) إذ يُنحّي (ناتالي ساروت) عن دربه القصصي.. (غرفة علية. سرير. نافذة فيها أصص ورد/ وشذى زهري في الصبح/ ورجل يشعر بالرعشة في شعاع الشمس. وهمسات ريح (النسيم دافئ) قالت المرأة/ والبحر يُقبل من النافذة (تتبدى شعرية لمحة بصرية) كان الرجل يرى أبواب البحر مفتوحة: ذلك البحر المتأهب- تتفتح الزنابق بينما بدت الظلال رطبة وأجراس تقرع في الجو- (استحضار البحر الفجائي ضربة المخيلة عند القاص).
الخطوة التي تلي في (ما يلائم الحال) يقصي القاص نفسه نهائيا عن (انفعالات ساروت) . أما في (حياة حقيقة)- لوحة فنية صامتة مع فطنة تخيلية- هناك قطط عمياء لا ترى وردتين على الطاولة ولا الغليون/ توجد الموسيقى وكأس الخمر/ ولا ترى التفاحة المقضومة، والمسامير وملابس المرأة المتسخة بنشارة الخشب/ ولا ترى المنشار الكهربائي، جذوع الأشجار مشروحة، لا ترى علبة الكبريت والنار (قصة تذكر بلوحة من لوحات سيزان- ولكن ما الذي جعل القاص يرصد قططا/ فهي عمياء وبديهي أن لا ترى شيئا- إن شعرية العين الراصدة تجعل قصّا كهذا مقبولا وقويا).
ثم يجعلنا نتجه إلى الحكي البطيء جدا (حكاية عن أمه التي يصيبها مسّ من الجنون فتلملم أشياءها/ ذلك يحدث في البيت الواطئ بالماجدية إذ تشعل شمعة قرب سريرها ثم تفتح الباب للريح الباردة). وماذا بعد؟ مجرد ضربات مرئية لقصّ لا يجيء، ذلك أن القاص ينفتح أحيانا على سعة الطبيعة وفي أغلب الأحايين تجري أحداث قصصه في الغرف المغلقة (غرفة فيها سرير ببراعم، فيه ثقوب يمتلئ في الليل (كأن القاص يسربل الحدث الصامت) وعينه على البخور الذي يغرق المبخرة…).
ثم يكثف القاص تجربته على الومضة الخاطفة لقص لا نعتقد أنه محسوب على حركية (الفعل القصصي).. وإليك هذه الومضات:
بالأسود والأبيض: ( امرأة تنزل من سيارة فورد ترمي إلى النهر لفافة بيضاء.. في اللحظة ثمة نورس يحلّق!!).
في بداية المساء: (الليالي تصير باردة وتسقط أوراق الشجر في الحديقة المظلمة.. في البعيد صوت قطار/ ثمة فقير كهل يبيع العلكة للأطفال (يلعب القاص هنا على لعبة الإنكار: فلا فقير هنالك ولم يكن كهلا ويكن في البعيد صوت قطار)…
عجز: (تعجز اليدان عن الإمساك بها وحتى مجرد اللمس لغرض المساعدة/ منذ الفجر حتى ذروة الليل تتلوى أعواد الخث ثم تحترق) القاص هنا شبه عاجز عن القص.. لماذا؟؟
في آب: (قط يموء من شجرة توت عالية وسقطتْ ورقة) القصّ قاصر تماما.
هروب: (دراجة مركونة تلمع سلتها في الشمس ثم يلمع المقود والسرج- وقطة تلقي نظرة فاحصة وتهرب) صورة قصصية لا تترك أثرا إلا في سريرة قاص يرى الأشياء غير ما نراها.
عمال: (في آنية الفخار. في جرار قديمة- مزارع. حقول يفلحها عمال باذخون قصيون) صورة مرئية تلتمع في خيال شاعر.
كل يوم: (جفاف. حصار. وحرب. حمّلوا العربات بالموتى وتركوا الأحياء في قبر التراب منيعين/ كل يوم تأتي أطيار وفراشات ملون) تفاؤل يشي بالمجهول.
أسماء: (ينامون في مأوى هو غور مضطرب صراخ غائب يبددهم) صورة مرئية وليست قصصية.
حنبص: (صبية يلعبون الكرة ومجنون يجري خلف الشمس يرميه الصبيان بالحجارة فيهرب والظلال تحميه) أقصوصة نظرة تتعالى فيها العاطفة على حساب الفن.
حرب أهلية: (ينتزعون ركائز السياج ليضعوا ساترا- هنالك نخلة. وعوسج وشوك- وقذائف تنهي كل شيء) تطل علينا الجملة (الساروتية) من جديد.
ويعود القاص ليحصر مخيلته في غرفة فيها سرير ببراعم!! فيه ثقوب يمتلئ في الليل (كأن القاص يدخل في سريالية الحدث الصامت) وعينه على الصورة التي يشع فيها البخور ليغرق المبخرة.
وقبل أن ننهي قراءتنا لهذه الأقاصيص يأخذنا القاص إلى بار فيه وجه فتاة يبدو أجمل بدون الزينة/ تخلع البطلة معطفها كأنها تخرج من سجنها. تلتفت، تستدير فنرى ثوبها المخملي الطويل وعليه نقش بحروف بارزة (فوق عجيزتها) بالضبط كلمة VENECIA.
ثم يرسم القاص دائرة فيها (خيّالة) ينامون على أرض الحجر والخيول أعلى قامة في الليل روائحها قوية- وتنهض الصخور والحجارة والجلاميد (إن القاص يؤنسن الجمادات ويحيونها ويجعلها وحوشا تطلب الثأر.. قصة غرائبية شيئيّة. خاض التجربة بعض القصاصين الستينيين).
(2)
محمد عبد حسن
ونأتي لنجابه مجموعة القاص والروائي (محمد عبد حسن) في مجموعته (أنْ تنتظر لاشيء)(**). أمامنا ستة عشر أقصوصة قصيرة جدًا والباقي لا ينتمي لهذا الفن- يفتتحها بـ(اغتيال).. اللغة واقعية رصينة حيث ينأى عن شعرية القص ويعتمد الحادثة التاريخية باغتيال سعد بن عبادة- ينهي القصة ببيت شعري يعتبره الضربة الفنية:
نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ورميناه بسهمين ولم نخطئ فؤاده
إن اعتماد القاص بيتا شعريا تراثيا يقفل به قصته يجنب قصته الانتماء للحداثة. يلي ذلك قصة بدون عنوان (……….) يرسم لنا شارعا مضاءً في مدينة غريبة (نعتقد أنها العاصمة الأردنية عمّان) يجول البطل في سوحها ليجد نفسه في طرف المدينة القصي الآخر المظلم تماما وينهيها بضربة موجعة: (في الصباح انحدرت إليه. أدهشني أنه ما زال مظلما ويصطدم بباب حديد صدئ مكتوب عليه (مـ…قا…بر.. الـ…غـ…ر…با…ء). تجسد القصة مأساة العراقيين المنفيين.
في قصة (الحرب) يرسم القاص صورة للحصار وكوارث الحروب عبر امرأة تعجن العجين بضنك وعناء ومحنة الجوع الذي عاناه الإنسان العراقي. لا يرفع القاص صوته بالصراخ وطنين اللغة الهادر/ إنما المعاناة يجسدها لنا عبر الطبقة الثانية الخفية للغة (يرسم الوجع فيما وراء اللغة).
بينما في قصة (الطائر) يتخذ من الرائد (محمود عبد الوهاب) بطلا، ذاك الذي غيّبه الموت لكن القاص يعيده إلى الحياة ثم يحيله طائرا يمتطي عصاه ويبتعد كساحر إسطوري محلّقا باتجاه (الثريا)- صوب الخلود.
يظل (محمد عبد حسن) قاصا ذا شكيمة صارمة باشتغاله على اللغة فلا ينزع إلى الغنائية- إننا بحاجة ماسة إلى تلك اللغة الصارمة/ أحيانا تنفلت منه تلك البراعة التي وجدناها في قصصه العديدة فهو لا يجترح ابتكارا عاليا كما في قصة (أمنية).
في قصة (خيانة) يتحرك على موضوعة (الإيروتيكا) حيث الزوجة تنضو عنها ثوبها لتستبدله بآخر أكثر عريا إذ يحرّك فينا (الشبق) فتطلي شفتيها وتدلق قليلا من العطر لتمسح رقبتها وإبطيها/ القاص يرمّز للخيانة التي لا نابه لها بقدر توقنا الفني لذاك العري الأنثوي.
في (رأس) القصة التي كتبت في زمن الدكتاتورية كانت وقتها جريئة جدا ومجازفة تحكي عن (مدير رمز للسلطة) تقدم له الأوراق كل يوم عبر ملف كُتب على ظهره (بريد السيد المدير) تلفت انتباهه ورقة واحدة كُتب عليها:
(طلب شرار رأس… يرجى التفضل بالموافقة على شراء رأس بالمواصفات التالية:
عين واحدة في الوسط
خال من الآذان
له انف كبير
وخال من الأسنان
توقيع)
هذا ما يريده الدكتاتور من الإنسان العراقي.
لقد تجرّأ أن يكتب أغلب قصصه الصادمة في منفاه الذي طال لأكثر من عقد من السنين ضيّعته المنافي كماض يعته قبلها المعتقلات. وتلفت انتباهنا في أعلب قصصه موضوعة الغياب: (كان أبي غائبا في ركنه الأثير طافيا وسط سحب دخان رمادي تخلفه سكائره بتبغها الرديء)- بعد أن ترفع الصينية ينتظرها شوقا لمعرفة حكايتها (حتما هي الأم والغائب حتما هو الأب)- غياب رمزي في اشتغال لا يبوح به القاص: وتلك مزية من مزايا الفن الرفيع.
يعنون قصة بـ(صعود) بينما المتن يبتدئ (في العمق) فكل شيء ينتمي إلى الهلاك والفقدان ثم ينهيها بـ(تبتلعني المياه). تنتمي القصة للمفارقة بين العنوان والمتن فهي تشي بفكاهة شديدة السواد/ حين يستمر بموضوعة القص يطلّ الوجع فجأة (إنها حكاية مغترب- حكاية سيرية لطقس بطل منفي شريد في الساحة الهاشمية يبحث له عن مكان ومأوى- تشعرك قصة (طقس يومي) بجراح الإنسان الراقي الذي عاش الذلّ والهوان.. وينقلنا القاص هذه المرة إلى لعبة (تبادل الأدوار) (حدثني أبي.. وانتظرته حتى غفوت- وعندما يفيق البطل يجد أباه يبكي وبدأ هو أيضا يبكي، والأب يغفو إلى جانبه بهدوء…).
تنطلق السيرة الذاتية في قصص محمد عبد حسن صارخة هذه المرة. (تمطر السماء فتخرج الأم معطف أخيه ثم تعلقه على المشجب وتتجه إلى غرفته لتوصد النافذة وتغطيه…).
بقدرة فنية عالية (وأداء تمثيلي) تمارس دورا بطوليا عن ابن غيّبته السلطة فجسدته لنا حيّا يرزق: ذلك هو امتياز الفن الرفيع.
نختتم قراءتنا المتواضعة لقصص ستبقى في ضمير السرد العراقي.
البصرة
(*): قطط عارية/ قصص قصيرة/ حيدر عبد المحسن/ ط1 2016
دار العراب / دار إمضاء
(**): أن تنتظر لا شيء/ قصص قصيرة جدا/ محمد عبد حسن/ ط1 2014
منشورات اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة
كاتب من العراق