محمد سعد عبد اللطيف: حديث الروح بين القيثارة والصمت

محمد سعد عبد اللطيف
كان الليل ثقيلًا كأنما يسير على رؤوس الحروف،
جلستُ أستريح من عناء الكتابة،
أوقدت شمعة صغيرة،
وجلست أبحث عن مؤشر الراديو في زاوية الغرفة،
ذلك الراديو العجوز الذي يحتفظ بصوت الزمن،
ويُفلتُه كلما اختنقت الأرواح.
فجأة…
توقفت أصابعي،
وتوقف الهواء.
رنّ صوتها،
“حديث الروح”…
كأن أم كلثوم غنّت في اللحظة التي كنتُ فيها أقرب ما أكون إلى الغياب،
غنّت لا لتُطربني، بل لتُبكيني.
تسمرت في مكاني،
والدموع تنزلق دون إذن،
لم أكن أبكي، كنت أتحلل ببطء من كل صلابة صنعتها السنوات،
كنت أذوب في لحنٍ يعرف وجعي أكثر مني.
في تلك اللحظة…
تذكّرتُ كل من رحل،
كل من وعد،
كل من انطفأ معهم وهج الحياة،
ورأيت نفسي طفلًا يركض في بستان الذاكرة،
يلهو تحت شمسٍ لم تعد تسطع،
ويحلم بأغانٍ لم تعد تُغنّى.
كان “حديث الروح” تلك الليلة
حديثي أنا،
لكن أم كلثوم قالت ما لم أجرؤ على كتابته.
في لحظةٍ ما، لا يعود الصمت فضيلة، بل يتحول إلى قيدٍ يضغط على الروح حتى تتشقق.
هكذا شعرتُ حين انفجرت قيثارتي بأنّات الجوى،
لا شيء يُعزف، لا لحن واضح، بل مجرد نوبات متقطعة من الألم النبيل،
ذلك النوع من الألم الذي لا يصرخ، بل يهمس…
حتى تنصت له كل خلية في جسدك.
قيثارتي امتلأت بأنّاتِ الجوى،
لا بُدَّ للمكبوتِ من فيضانِ
صعدتْ إلى شفتيّ خواطرُ مهجتي
ليُبيّنَ عنها منطقي ولساني
إنهُ حديثُ الروحِ، ذاكَ تبتُّلٌ
وتجلِّيُ الأرواحِ في الأكوانِ
كان لا بدّ للمكبوت أن يفيض،
فالروح حين تُخنق بالأسئلة، لا تجد مهربًا إلا أن تُغرق صاحبها،
ليس في الدموع، بل في الكتابة،
في البوح الذي لا يقصد أحدًا بعينه،
بل يُلقى كما يُلقى الزهر في نهرٍ مجهول، علّه يصل ضفافًا لم نبلغها يومًا.
صعدت إلى شفتي خواطر مهجتي،
لكنني لم أكن أبحث عن مستمع،
بل عن صدى.
عن جدارٍ يعيد إليّ صوتي بعدما ضاع في الزحام.
كان الحديث أكبر من أن يُختزل في جملة، وأدق من أن يُفصح عنه منطقٌ أو لسان.
حينها فهمت:
أنّ ما يخرج منا ليس كلمات، بل أرواحٌ صغيرة
تبحث عن من يؤمن بها،
ولو لبرهة.
“حديث الروح”، ليس أدبًا، ولا غناءً،
إنه ذلك البرق الداخلي،
الذي إن لم تمسكه في لحظته،
خبا،
وربما خَبَت معه قطعة من إنسانيتك.
لهذا كتبت،
لا لأنني أملك القدرة على القول،
بل لأنني لا أملك رفاهية السكوت.
لقد استطاعت أم كلثوم، بعبقرية صوتها، أن تجد في المقطع الشعري ملحمةً تنبض بالصدق والصفاء، فتمنحه صوتًا يتجاوز حدود الحروف. في تلك اللحظات التي تجسّد فيها المعنى بالنغمة، تبلغ الأغنية ذروة وجودها ككائن حيّ. لقد تفوقت أم كلثوم في تحويل الصمت المتراكم في أرواحنا إلى صوتٍ نقي، يعبر عن شيء نبحث عنه، ولا نستطيع أن نقوله. تداخلت الكلمة بالروح، وتماهى الصوت بالمعنى، فكان المقطع، في أدائها، تجسيدًا كاملًا لما نحسه ولا نستطيع التعبير عنه. هذا التفرّد لا يُصنع، بل يُوهب، وكان صوتها هبة لنا في لحظة كنا فيها أحوج إلى الإنصات من الكلام.
كاتب وباحث في الجيوسياسية
[email protected]