فارس غازي: علوان مهدي الجيلاني في (ألبومات آدم الثاني) التأمل في حقيقة الوجود بشاعرية

فارس غازي
يرى هايدغر في كتابه (الوجود والزمان) أن بإمكان الشعر تجاوز اللغة الفلسفية القابعة في شرنقة الوجود وأسئلته ذات البعد الميتافيزيقي، ذلك أن الشعر يصل إلى حقيقة الوجود ببساطة، ويقود إلى التأمل والتفكير بشاعرية، وبهذه الرؤي أسس هايدغر لفكرة التجاور مع المخيال والغيب، وهي فكرة احتضان العالم التي ترتكز على التصوير، أكثر من تركيزها على التعقل، أو شرح المفاهيم بشكل غير شاعري.
وقد لفت نظري أن مقاربة هايدغر للشعر وعلاقته بالوجود بوصفها منظاراً بالغ الأهمية لفهم العملية الشعرية. تتقاطع مع رؤية الشاعر علوان مهدي الجيلاني للشعر كما قدمها في ديوانه الجديد (ألبومات آدم الثاني) -بغداد 2025 -في عدة جوانب، فبدلاً من الخوض في تنظيرات فلسفية مباشرة حول الوجود، يتجه الديوان إلى لغة شعرية حسية وتصويرية لا تشرح الوجود؛ بل تحاول استحضاره وتقديمه من خلال صور ومشاهد حية. على سبيل المثال، وصف الشعراء بـ(زمرة صيادين مفعمين بالقلق) أو تصوير اللغات قبل أن يسكنها الشعراء بـ(كواكب جرداء باهتة) يقدم إحساساً بالوجود وطبيعته دون الوقوع في التجريد الفلسفي، ما يعني تجاوز اللغة الفلسفية المجردة.
كذلك نجد أن الديوان لا يسعى إلى تقديم تعريفات قاطعة أو إجابات نهائية لأسئلة الوجود؛ بل هو يقود القارئ إلى التأمل والتفكير من خلال الصور الشعرية المؤثرة. عبارات مثل:
كانت الحدود في الأشياء كلها
كل حدٍّ يباسٌ وكل يباسٍ موت
ما يثير تساؤلات حول طبيعة تلك الحدود وأثرها في الحياة دون تقديم تحليل فلسفي مباشر، بمعنى الوصول إلى حقيقة الوجود ببساطة شعرية.
فيما يتعلق بتقاطع ديوان (ألبومات آدم الثاني) مع تأسيسات هايدغر للتجاور مع المخيال والغيب نجد أنه يعتمد بشكل كبير على قوة الخيال في استكشاف الوجود. الصور الشعرية غالباً ما تتجاوز الواقع المادي المباشر لتقترح عوالم أخرى أو رؤى غير مرئية. القول بأن الشعراء (لا يبحثون عن اللغة) وذلك لسبب شعري هو (إنهم اللغةُ ذاتها)، أو خلق صور مثل (ضوء القمر يتحطم كالزجاج) يفتح الباب أمام المخيلة لاكتشاف أبعاد أعمق للوجود؛ كما أن استدعاء شخصيات أسطورية وتاريخية يربط الحاضر بالماضي والغيب بالثقافي.
أيضاً نجد أن نصوص الديوان تركز بشكل أساسي على التصوير الحسي للعالم وتجارب الإنسان فيه. بدلاً من التعقل والشرح المفاهيمي، هناك وصف حيٌّ للشعر من خلال مشاعر تنبض وتتجسد:
حين تبدو كخطأ صانع ماهر
حين تبدو كثقوب سوداء في أفق أزرق
فذلك يعني أنك فكرة وجودنا الأولى
أنك لا تكف عن بلبلةِ سطح الحياة
أن ميلك المقلق لارتياد الأعماق لم يكن عابراً
لقد كنت كوكب الكلام
كنت طينته وغناه،
كانوا يرونك في أوهام الزمن وتردداته
في شعورك المرهف بذبذبات المخيّلة
وهناك وصف حيٌّ لطبيعة الشعراء بوصفهم أول من فتح باب المحاولات الإنسانية للتكيّف مع الوجود، فقد كانوا مختلفين وهم يمارسون تلك اللعبة من خلال الشعر:
تبدَّل الأمر حين ظهر من بيننا
أناس بعيونٍ أكثر لمعاناً
كانت الكلمات تخرج من شفاههم
بشكلٍ مختلف،
كانت تجعل ما هو كئيب يبدو مرحاً
كان لكلماتهم روائحُ وألوانٌ زاهيةٌ
يتحول الوجود بسببها إلى احتمال أكثر رهافة
وهناك استدعاء توافقيٌّ للتاريخ:
منذ هبط آدم
ومنذ تخلَّق إنكيدو
كنا نعيش على نشارةِ الحياة،
معرفتنا الوحيدة هي حالاتُ الهلعِ التي لا معنى لها.
هذا الاحتضان التصويري للعالم يتفق مع تأكيد هايدغر على أن الشعر يكشف عن الوجود بطريقة مختلفة عن الفلسفة، فإذا كان هايدغر يرى أن الشعر أقرب إلى اللغة الأصلية التي انبثق منها الوجود؛ فإن ديوان (ألبومات آدم الثاني) يبعث فينا إحساساً بأن الشاعر يسعى إلى استعادة هذه العلاقة الأولية بين اللغة والوجود، من خلال لغة شعرية حية ومتجددة قادرة على تسمية الأشياء بطريقة جديدة وغير مستهلكة، يتجسد ذلك مثلاً في فكرة أن الشعراء:
هم الذين جعلوا ضوء القمر يسهر الليل
وهم الذين جعلوه يتحطم كالزجاج
وهم الذين صنعوا منه زورقاً صغيراً
وجعلوا فضته تتعاشق بأخيلتهم اللذيذة
وهي فكرة تحمل إشارة غنيّة إلى الدور التأسيسي للغة الشعرية في تشكيل إدراكنا للعالم، وفي هذا تأكيد على ما فعله الشعراء على مرّ العصور، أعني ما يؤكد عليه الديوان من سعيهم الدائم لاستكشاف المعنى، وما يؤكد عليه من دور أصيل تقوم به اللغة الشعرية من أجل كشف جوانب من الوجود قد لا تستطيع اللغة الفلسفية الوصول إليها بنفس الطريقة.
إن ما يقوم به الشعراء عبر فعل الشعر نفسه هو كشف الحقيقة أو رفع الحجاب (أليثا /Aletheia) -حسب هايدغر -والمعنى أن الشعر يكشف عن حقيقة الوجود بطريقة فريدة.
يمكننا أيضاً أن نرى في (ألبومات آدم الثاني) تجسيداً للشعراء كـ (سكان) للغة، وتلك إحدى مقولات هايدغر، فهو يرى أن الشعراء يسكنون في اللغة ويستمعون إلى صوت الوجود من خلالها، وأنهم يفعلون ذلك بفضل امتلاكهم حساسية خاصة تجاه اللغة، وقدرة على استخراج المعاني الخفية منها:
الشعراء وحدهم كانوا يعرفون ما ينقص الإنسان
وحدهم كانوا يستطيعون الوقوف في مركز اللغة
من خلال ما سبق يمكننا القول إن ديوان (ألبومات آدم الثاني) يحقق قدراً كبيراً من التقاطع مع مقولات هايدغر حول طبيعة الشعر، فهو يتجنب إلى حد كبير اللغة الفلسفية المجردة، ويتجه نحو لغة شعرية حسية وتصويرية قادرة على إثارة التأمل وتقديم رؤى مميزة حول الوجود بطريقة شعرية، إلى جانب ذلك نجد فيه التركيز على الخيال والتصوير بدلاً من التعقل والشرح المباشر، ناهيك عن توافقه الملحوظ مع فكرة احتضان العالم التي يطرحها هايدغر.
مع ذلك فإنه من المهم ملاحظة أن ديوان (ألبومات آدم الثاني) لا ينفصل تماماً عن التفكير المفاهيمي، هناك لحظات تأملية مباشرة حول طبيعة اللغة والشعر ودورهما؛ لكن حتى هذه التأملات تُقدم في سياق شعري وتعتمد على قوة الصورة والاستعارة.