د. جمال الحمصي: كلكم لآدم.. وآدم من تراب: الدروس المستقاة من دستور المدينة في بناء الأمم والدول العربية

د. جمال الحمصي
أشرت في مقالي الأخير ” وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ: في حوارات فقه السنن الربانية” الى إخفاق تجارب القومية العربية منذ ساطع الحصري في إرساء “مقومات الوحدة” القابلة للاستمرار، بين الدول العربية وداخلها، وذلك لقرنٍ ماضٍ من الزمان، مما يستلزم البحث عن خيارات جامعة إضافية لتعزيز اللحمة الوطنية والتماسك الاجتماعي في ظل ظروف دولية استثنائية واقتصادية ضاغطة.
مقدمة في فقه الواقع
في علم السياسة المعاصر، يعتبر تحقيق السلام الاجتماعي من الدعائم الأساسية لبناء الأمم والدول، كما تتسلح الأمم المتحدة وتتعذر الدول العظمى بهذا المقصد عندما تتدخل بالقوة الخشنة في الدول الهشة والمتضررة من النزاعات لتحقيق ما يُعرف ب”الإصلاحات” الليبرالية. هذا ويُقدّر أعداد السكان القاطنين حالياً في دول هشة وتعاني من الصراعات نحو مليار نسمة ضمن 39 دولة على الأقل (من ضمنها 9 دول عربية!) في عام 2025، مما يعطي للقارئ فكرة عن شيوع الظاهرة قيد الدراسة في العالم العربي خصوصاً وحول العالم ككل عموماً.
هذا ويلاحظ تصاعد النزاعات نوعا وكما ومن مختلف الأشكال في العالم العربي مؤخراً لأسباب تاريخية وسياسية واقتصادية وجيوسياسية. ومؤخراً، صرّحت مسؤولة أممية في اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) في قراءتها للتقرير العربي للتنمية المستدامة لعام 2024 أن الاحتلال وحالات الصراع وعدم الاستقرار في 9 دول عربية، تضم حوالي 40% من سكان المنطقة العربية، تشكل عائقا كبيراً جداً أمام تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ليس فقط في تلك البلدان وإنما في المنطقة العربية بأسرها.
وهذه الاتجاهات المفزعة في هشاشة الدولة والمجتمع ستؤثر على الأجيال القادمة وليس فقط على الجيل الحاضر كما المحت المسؤولة الأممية، بفعل تراكم التأثيرات السلبية (تأثيرات الفراشة والدومينو). وللأسف، تكاد لا تخلو منطقة عربية من محاولات التفرقة وتحديات النزاع، وآخرها سوريا الجديدة والسودان الشقيق (سلة غذاء العالم العربي الذي يعاني حالياً أكبر أزمة جوع في العالم).
بقي ان ننوه الى ان الأسباب الجذرية للنزاع والهشاشة والغثائية هي عموماً أسباب هيكلية داخلية تعززها وتستغلها وتضخمها قوى خارجية، وهي تشمل ضعف التنمية الاقتصادية التشاركية والحوكمة العامة وهشاشة الهوية الوطنية والمجتمع المدني والتنافسية الدولية في عالم مفتوح. وما تداعيات ما يُسمى بالربيع العربي الا نتيجة لتلك الاختلالات الهيكلية المزمنة أكثر ما تكون سببا لها، رغم التداخل لاحقاً بين السبب والنتيجة.
أساسيات فقه الشريعة
وقد أولت العديد من النصوص القطعية للقرآن الكريم والسنة النبوية أهمية كبيرة للتماسك والتآلف الاجتماعي لا داعي لسردها بالتفصيل (مثال: “وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ” و “قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ”)، بل واعتبر بعض كبار المقاصديين المعاصرين (مثل ابن عاشور) أن حفظ نظام الأمة هو أحد مقاصد الشريعة الإسلامية الأساسية. وفي الواقع، فان التأصيل الشرعي لهذا المقصد هو أكثر حجية مما هو سائد، وذلك في إطار النموذج المقاصدي المتعارف عليه تقليدياً (المقاصد الكلاسيكية الخمسة الحرجة: حفظ الدين والنفس والمال والنسل والعقل) خصوصاً إذا صاحب مقصد حفظ نظام الأمة التمسك بمحكمات الدين الحق.
فقد ربطت بيّنات القرآن الكريم بين اقامة الدين وعدم التفرق فيه في إشارة ذات دلالة للأهمية الثنائية لكلاهما ((“أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ”، و “إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي”) وكذلك ربط القرآن بين توحيد العبودية لله وبين توحيد الأمة/ المجتمع، ليؤصل بذلك فكرة الائتلاف ومبدأ وحدة الامة في إطار التنوع الطبيعي في الشعوب والقبائل واختلاف الألسن والألوان وتعدد الاجتهادات الفرعية في ميدان الظنيات. قال تعالى: “إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ”، وقال تعالى: “إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ”.
ولابد أيضاً من البعد عن فكرة القدر المحتوم للنزاعات داخل الدول العربية وفيما بينها (والذي يمكن أن يُردّ بالقدر كذلك) كما حدث مع الأمم والأديان الأخرى في إطار ما وصفه الرسول ب داء الأمم. ومثال على هذا الزعم القَدَري: الاستناد الى الحديث النبوي: “وسألْتُهُ أن لَّا يَجْعَلَ بأسَهم بينَهم، فمنَعَنِيها”.
إن آية “وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ” وغيرها تنطبق بالتأكيد لكنها تُوازَن بواسطة طلب الرحمة والنعمة الالهية (“إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ” و “فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا”) وتسخير كافة مُمكنات التأليف بين الأفراد والجماعات (اعتماد الأسباب والسنن القدرية والتشريعية) رغم التدخلات والفتن الخارجية.
الأسباب الجذرية للنزاعات وحلولها الممكنة
دراسات الصراع والسلام متعددة التخصصات تؤكد أن النزاعات عادة ما تحدث اما على الثروة (الموارد الاقتصادية) أو على السلطة (السياسية) أو على القيم (الاجتماعية والدينية).
لكن الجريمة الأولى في البشرية (جريمة قابيل ضد هابيل) تؤشر الى النزعات النفسية المتأصلة لدى البعض بمعزل عن سوء توزيع الموارد المتاحة وندرتها، وظلم السلطة واستبدادها ومشروعيتها، وتباين العادات والدين ومظالم الهويات (قال تعالى على لسان الملائكة: َتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ). مضامين ذلك، ضرورة توسيع الكعكة الاقتصادية والاهتمام بتوزيعها (تحقيق النمو التشاركي)، وعدم الاقصاء السياسي، واعتماد التعددية والتنوع ضمن الوحدة، وإقامة دولة القانون والمساءلة والفاعلية.
أما الحلول المتكاملة فتشمل: الاعتصام بمحكمات الدين وأساسيته والبعد عن المتشابهات والخلافيات الفرعية، وتصميم الدساتير الجامعة، وتوافق الحد الأدنى (كلمة سواء)، وبناء هوية عامة مشتركة في المجتمعات المنقسمة، وتعزيز المشاركة والمبادرات العامة غير الانقسامية، وتقييد التدخلات الدولية والعقوبات الجائرة، والحوار والتفاوض الوطني المستمر بين قيادات النخب، وتوفر آليات الوساطة والتحكيم (مثال: مختار الحي وإمام الجامع)، والإصلاح بين الناس، وتجزئة النزاع، وتطوير والتركيز على الأهداف والمصالح والحلول التعاونية (كتوفير الخدمات العامة وفرص العمل عالية الدخل والتنمية الاقتصادية للجميع).
دستور المدينة كآلية تشاركية لتحقيق السلام والازدهار
وثيقة أو اتفاق أو دستور المدينة تشكل أول حالة تاريخية موثّقة في القانون الدستوري، تتسم بالجمع بين التفكير السياسي العملي والمبادئ الدينية. وهي بالفعل وثيقة سياسية ودينية قبل ان تكون وثيقة دينية بحتة.
الغاية العملية من الدستور كانت تحقيق الاستقرار والنظام العام والتعاون في مجتمع تعددي وبين جماعات متباينة في المعتقد في المدينة المنورة بقيادة خاتم الأنبياء: المسلمين مهاجرين وأنصار، واليهود، والمسيحيين. وبسبب تضمينه الحقوق والواجبات باتجاه توحيد القبائل وحمايتها في يثرب ضمن أمة واحدة سياسية ودينية، يرى البعض أنه مثال ريادي على تأسيس عقد اجتماعي جامع بقيادة مركزية فذة لا تتجاهل كل من تطلعات الأغلبية والأقلية، وذلك قبل فلاسفة السياسة الغربيين أمثال روسّو ولوك وهوبز بقرون مديدة.
أما المبادئ الدينية التي ارتكز عليها دستور المدينة فهي ثلاثة: لا اكراه في الدين (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِين)، ووحدة الأمة تجاه التحديات، وأخيراً حقوق الأقليات وواجباتها.
هل من دروس لدستور المدينة قابلة للنقل والتسخير؟
نعم بالتأكيد، فدستور المدينة ليس حدثا تاريخياً عابراً. ولعل من اهم الدروس المستقاة من دستور المدينة المنورة هي:
(1) ضرورة التعايش (قبل التجانس) في المجتمعات التعددية المعاصرة ضمن قواعد وحلول صريحة وعملية ومفيدة للجميع، دون التجاهل الدائم لهوية الأغلبية (كما فعلت العلمانية العربية) أو إنكار لحقوق الأقلية.
(2) أهمية الحوكمة التشاركية وضرورة الجمع بين آليات التعاون والإكراه (الإذعان القانوني) في تحقيق النظام الاجتماعي العام، على عكس ما نظّر له الفيلسوف السياسي هوبز وبعض الحركات العلمانية والدينية.
(3) الموازنة بين متطلبات الواقع التعددي وتوجيهات الدين الموحدّة، والجمع المتقن والمرن بين المبادئ والمتغيرات.
(4) أهمية القيادة والمؤسسات والثقة في التوصل الى حلول مركزية ولامركزية في مجال دعم السلام والتكاتف المجتمعي.
أهمية السياق وغالباً لا حلول فريدة وجاهزة تناسب الجميع
لم يكتفِ النبي عليه الصلاة والسلام بدستور المدينة على أهميته في تعزيز الهوية الوطنية، بل سبقه ولحقه ترتيبات مؤسسية وتنموية وثقافية متنوعة. ودون التقليل بتاتاً من أهمية نموذج دستور المدينة كآلية ريادية للحوكمة التشاركية، لكن مجموع الترتيبات السياسية التعاونية والتفصيلية لكل حالة أو بلد يجب تكييفها وترتيبها حسب خصوصية البيئة المحلية بتعقيداتها.
هذا يتطلب بذل الجهود المؤسسية والفردية في إيجاد الحلول المحلية وتعديلها مع نشوء المستجدات، واللجوء أيضاً الى آليات متنوعة ومكملة لإدارة النزاعات، مثل بناء مؤسسات الثقة لا القسر فحسب، وإعطاء أولوية لتحقيق التنمية الاقتصادية الجامعة، وتطبيق المؤاخاة بين من يملك ومن لا يملك، وتعزيز رأس المال الاجتماعي وآليات التعاطف والتعاون والتآلف، وحماية مؤسسة الأسرة والزواج، ودعم مؤسسات المجتمع المدني ومبادراته الريادية في حل المشكلات الجماعية والخلافات المحلية بأنواعها.
كاتب اردني