د. عمر السلخي: صوت من سلفيت: لماذا نحتاج إلى استراتيجية وطنية خاصة بالمناطق (ج)؟

د. عمر السلخي: صوت من سلفيت: لماذا نحتاج إلى استراتيجية وطنية خاصة بالمناطق (ج)؟

د. عمر السلخي
من هوامش الجغرافيا إلى قلب المعركة منذ أكثر من ثلاثة عقود، وتحديدًا بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، دخلت الجغرافيا الفلسطينية مرحلة جديدة من التعقيد، لا سيما في المناطق المصنفة (ج)، والتي تشكل أكثر من 60% من مساحة الضفة الغربية (OCHA, 2014)، والتي تصل نسبتها في محافظة سلفيت 75%. هذه المناطق التي يُفترض أن تبقى “تحت التفاوض”، تحولت في الواقع إلى ساحة هيمنة إسرائيلية شبه مطلقة، بفعل سياسات المصادرة، والهدم، ومنع البناء، والتوسع الاستيطاني.
ولكن الأخطر من ذلك، هو الفراغ السياسي والتنموي الفلسطيني الذي ترك هذه المناطق في مهبّ مشاريع الضم والتهويد. وفي قلب هذا المشهد، تقف محافظة سلفيت كشاهد حيّ على التحديات الميدانية والتقصير الاستراتيجي، فالمحافظة التي تحاصرها المستوطنات من كل اتجاه، وتخنق بلداتها وقراها الطرق الالتفافية، تكشف بوضوح الحاجة إلى استراتيجية وطنية متكاملة للمناطق (ج)، تبدأ من الاعتراف بها كأولوية وطنية، ولا تنتهي عند تخصيص الموارد والدفاع القانوني.
سلفيت: مختبر السياسات الاستيطانية
تمثّل محافظة سلفيت نموذجًا فريدًا في خارطة الاحتلال، ليس فقط بسبب كثافة المستوطنات فيها – إذ يجثم على أراضيها أكبر عدد من المستوطنين نسبة إلى عدد السكان الفلسطينيين – بل أيضًا بسبب موقعها الجغرافي الرابط بين شمال ووسط الضفة، وما تختزنه من أراضٍ زراعية ومصادر مياه ومعادن، مثل الحجر والرخام (ARIJ, 2023).
ورغم هذه الأهمية الجغرافية والاقتصادية، تُحرم سلفيت وقراها الواقعة في المناطق (ج) من أبسط مقومات التخطيط، مثل المخططات الهيكلية المعتمدة أو شبكات المياه والكهرباء أو رخص البناء، ووفقًا لتقرير مركز أريج (2023)، فإن أكثر من 47% من أراضي سلفيت مصادرة أو مهددة بالمصادرة لصالح الاستيطان، فيما تمنع سلطات الاحتلال إصدار تراخيص البناء في نحو 75% من قرى المحافظة المصنفة (ج).
النتائج: نزيف سكاني ومصادرة صامتة
يُترجم هذا التهميش إلى نتائج خطيرة على الأرض: تهجير صامت للعائلات الشابة، انكماش الزراعة، جمود عمراني، وتراجع في قدرة الهيئات المحلية على تقديم الخدمات، ولا تقتصر الخسارة على الأفراد، بل تتعداها إلى خسارة الدولة الفلسطينية المستقبلية لعمقها الاستراتيجي وجغرافيتها الحيوية، فالمستوطنات تتوسع بلا توقف، والجدار يعيد رسم الحدود، والمزارعون يُمنعون من الوصول إلى أراضيهم، والمباني يتم هدمها تحت وطأة جنازير الجرافات ، ويتم مصادرة معدات البناء والحصار الاقتصادي يشتد على القرى النائية.
لماذا استراتيجية وطنية الآن؟
إن غياب خطة فلسطينية شاملة للمناطق (ج) لا يمكن أن يستمر، فالأمر لم يعد متعلقًا فقط بحقوق الإنسان أو التنمية، بل بمفهوم السيادة الوطنية ذاته. لذا، فإن صياغة استراتيجية وطنية للمناطق (ج) هي ضرورة وجودية، وتكمن ملامحها فيما يلي:

اعتراف رسمي بأن المناطق (ج) تمثّل أولوية وطنية من الدرجة الأولى، على غرار القدس وغزة، مع وضعها على جدول السياسات العامة والخطط التنموية المركزية.

إطلاق صندوق وطني خاص بدعم الصمود في المناطق (ج)، يموَّل من الموازنة العامة، والمؤسسات المانحة المؤيدة للحقوق الفلسطينية.

تبنّي مخططات هيكلية تطويرية وشاملة، بغض النظر عن موافقة الإدارة المدنية الإسرائيلية، والشروع في تنفيذ مشاريع تنموية على الأرض كأمر واقع.

بناء تحالف قانوني وسياسي فلسطيني-دولي، لمرافقة المجتمعات المتضررة في معركتها ضد الهدم والإخلاء، وتوثيق الانتهاكات وتدويلها.

تمكين المجالس القروية والبلديات كجهات تخطيط وطنية، من خلال رفدها بالكفاءات والتمويل والأدوات القانونية.

دعم المبادرات الإنتاجية والنسوية والزراعية، وتحويل القرى المحاذية للمستوطنات إلى حواضن صمود ومراكز إنتاج محلي (Shabaneh & Oxfam, 2021).

التخطيط مقاومة
لقد علمتنا التجربة أن الاحتلال لا يواجه بالشعارات، بل بالمشاريع، لا يُكافح بالنوايا، بل بالخطط، وما تحتاجه المناطق (ج) – وسلفيت على وجه الخصوص – ليس شعارات تضامن، بل خطط إسكان وزراعة وتنمية حقيقية، فالمعركة على الأرض ليست فقط عسكرية أو سياسية، بل هي معركة تخطيط، معركة بقاء بالأسمنت والمحراث والميزانية، ولعلّ أول خطوة في هذه المعركة تبدأ من سؤال بسيط: هل نجرؤ على أن نُعامل المناطق (ج) كأنها قلب فلسطين، لا هامشها؟ إذا كان الجواب نعم، فالطريق يبدأ من الآن… من التخطيط، من التمكين، من الاستراتيجية.