عز الدين احمد: اللاجئ والسلاح والدولة: تفكيك سردية الفلسطيني العالق في لبنان

عز الدين احمد: اللاجئ والسلاح والدولة: تفكيك سردية الفلسطيني العالق في لبنان

عز الدين احمد
لم يكن المخيم الفلسطيني في لبنان محطة عابرة ولا إقامة مؤقتة، بل تحول عبر عقود التهجير والتهميش إلى نقطة تقاطع للزمن المكسور والهوية الجريحة، وإلى فضاء كثيف بالألم والاحتمال، وإلى سردية لاجئ لم يُسمح له بالنسيان، ولا أُعطيَ فرصة للعودة. منذ أن حمل الفلسطيني خيمته من فلسطين إلى لبنان، وهو محكوم بمنطق الاستثناء، وموزّع بين تصنيفات متعارضة: لاجئ في القانون اللبناني، ضيف في خطاب الدولة، ثائر في خطاب الفصائل، عبء في نظر بعض الطوائف، ومشروع فتنة في حسابات الأجهزة. وفي قلب هذا التداخل، ظل المخيم لا يشبه إلا ذاته، مكانًا للنجاة المؤقتة، ثم للنجاة الدائمة، ثم للذاكرة المحاصرة، ثم للموت المؤجل.
حين خسر الفلسطيني أرضه عام 1948، لم يحمل مفتاحًا فحسب، بل حمل ذاكرة طردت النوم عن أجيال لاحقة. لم تكن الخيمة مجرد قماش، بل كانت خريطة معطلة ومجتمعًا مهددًا، وشاهدًا على زمن عربي مشلول، لم يستطع أن يحسم نكبته، ولم يعرف كيف يحتوي نتائجها. المخيم في لبنان لم يكن مجرد مكان للسكن، بل صار بؤرة اشتباك دائم، ليس فقط بين الفلسطيني والدولة اللبنانية، بل بين الفلسطيني وذاته، بين الهوية الوطنية المحاصرة والهوية السياسية المأزومة، بين الرغبة في العودة وبين واقع التوطين المفروض قسرًا.
مع توقيع اتفاق القاهرة في 1969، ظن البعض أن زمن الاعتراف بدأ، حين مُنحت منظمة التحرير حق إدارة المخيمات أمنيًا واجتماعيًا، وممارسة الكفاح المسلح ضد إسرائيل من جنوب لبنان. لكنه لم يكن اعترافًا نابعًا من رؤية استراتيجية، بل كان تسوية اضطرارية لمحاولة احتواء واقع متفجر. الدولة اللبنانية، الممزقة حينها بالتوازنات الطائفية والمناطقية، لم تستطع أن تُنتج تصوّرًا جامعًا للتعامل مع المخيم، فتركت الأمر في هامش التجربة، حتى انفجر الواقع في الحرب الأهلية، وارتسمت خطوط النار ليس بين الفلسطيني والإسرائيلي فحسب، بل بين الفلسطيني ومكونات لبنانية أخرى. المجازر التي تتابعت، من تل الزعتر إلى صبرا وشاتيلا، الى حرب المخيمات كانت محطات دامية لتفكك كل أشكال الحماية، ولانكشاف الفلسطيني في لحظة لم يكن له فيها لا دولة ولا درع ولا حليف ثابت.
إلغاء اتفاق القاهرة في 1987 لم يُؤسّس لوضع جديد، بل عمّق الفراغ القانوني والسياسي الذي سكنه الفلسطيني منذ النكبة. ثم جاء اتفاق الطائف ليعيد إنتاج الدولة على قاعدة “حصرية السلاح”، دون أن يطرح تصورًا لحل قضية اللاجئين. كانت منظمة التحرير قد سلّمت السلاح الثقيل، لكن المخيم ظل تحت الحصار، لا بمنطق المواجهة، بل بمنطق الاحتواء والاشتباه. لم تَدخل الدولة المخيم باعتبارها ضامنة، ولا اسند الامر رسمياً للمنظمة باعتبارها راعية، فظل الفلسطيني يمشي على شفير الهاوية: لا حقوق، لا تمثيل، لا أفق. صار المخيم حقلًا رماديًا، تتنازعه أجهزة أمنية، ومصالح سياسية، واحلام العودة، وقلق التوطين.
ما بعد الطائف لم يكن أكثر رحمة.. لم تُطرح أي مقاربة وطنية لمعالجة الملف الفلسطيني، بل جرى النظر إليه كملف أمني، يجب ضبطه ومراقبته واحتواؤه. المخيم لم يكن حيًا عشوائيًا، بل متّهمًا دائمًا. الدخول إليه مشروط، والبناء فيه ممنوع، والتجول داخله مراقَب، حتى الترميم صار يُعامل كفعل تهديد. في ظل هذا الواقع، نشأت أجيال فلسطينية لا تعرف شيئًا عن وطنها سوى الاسم، ولا عن لبنان سوى القيد الأمني، ولا عن السياسة سوى أن وجودها “حالة مؤقتة دائمة”.
ثم جاء اتفاق أوسلو ليزيد الأمر تعقيدًا.. المنظمة التي فاوضت باسم كل الفلسطينيين، فقدت في المخيمات صدقيتها. أصبح الانقسام سيد الموقف، فتفكّكت المرجعية، وانقسمت الفصائل بين مؤيد ورافض للتسوية، وبين من يحاول مسك العصا من المنتصف دون برنامج واضح. منظمة التحرير بدل أن تكون مظلة جامعة، تحوّلت الى سفارة ثم إلى غرفة اتصال مع الدولة اللبنانية، تدير الواقع لا لتحميه بل لتتكيف معه، بما يخدم أولويات رام الله لا اللاجئين. أما فصائل التحالف، وعلى رأسها حماس والجهاد، فظلت أسيرة خطاب مقاومة عالي النبرة، لكنه غير مترجم سياسيًا، ولا يتجسّد في مشروع عملي في لبنان. اللاجئ صار رهينة هذه الانقسامات، يعيش على هامش التمثيل، ويُصدر باسمه مواقف لا يشارك في صياغتها.
كل هذا التشتت جعل من المخيمات ساحة مفتوحة للفراغ، ومن اللاجئ كائنًا بلا غطاء، متروكاً للتهميش والانقسام ولإعلام موجه يتقاذفه بالشيطنة والتشويه. السلطة اللبنانية بدورها تعاملت مع الانقسام كفرصة للمناورة، فعقدت حوارات أمنية مع كل طرف على حدة، وادارت الوجود الفلسطيني كأزمة مؤجلة، لا كقضية قابلة للحل. أما الأجهزة، فحولت المخيم إلى بنك معلومات، تُرصَد فيه التحركات، وتُصاغ منه التقارير، ويُبنى على أساسه خطاب الاشتباه.
في نهر البارد عام 2007، انفجرت القنبلة.. تنظيم “فتح الإسلام”، الوافد الغريب عن البيئة الفلسطينية، وجد طريقه إلى المخيم في ظروف مشبوهة. ورغم أن التنظيم لا يمثل المخيم، بل غزاه، فإن الدولة تعاملت مع المخيم باعتباره المتهم، ودُكّ بالصواريخ حتى تهدّم، وشُرّد أهله حتى تقطّعت بهم السبل. ومنذ ذلك الحين، صار نهر البارد نموذجًا يُلوَّح به. كلما عُرض موضوع ضبط السلاح، عادت الرواية الرسمية إلى تلك اللحظة، رغم أنها لم تجب يومًا عن الأسئلة الجوهرية: كيف دخل التنظيم؟ من سمح له؟ ولماذا فُجِّر المخيم بكل هذه الوحشية؟ ولماذا لم ينتهِ إعادة إعماره حتى اليوم؟
ليست الفوضى في المخيم صدفة.. المخدرات ليست عرضًا اجتماعيًا، وانما استهدافاً عابراً للحدود، سياسة تُمرَّر عبر الحواجز، وتُوزّع بصمت، وتستهدف شريحة عمرية محددة. كذلك المطلوبون، الذين يتحولون إلى أدوات تبرير للحصار، بعضهم متهمون فعليًا، وكثير منهم ضحايا جيش من المخبرين الانتهازيين ونظام لا يمنحهم الحق في الدفاع عن انفسهم أو يوفر لهم فرص عمل تضمن لهم حياة كريمة. البطالة المقنّعة تدفع البعض إلى الارتهان، فيما يتقاضى آخرون رواتب رمزية مقابل الولاء لهذا الفصيل او ذاك، بينما الغالبية تُترك فريسة الإحباط.
الطوفان وما قبله ليس كما بعده.. حين قرر حزب الله فتح جبهة من جنوب لبنان لإسناد غزة في مواجهة حرب الابادة، شارك فلسطينيون من لبنان بدعم رمزي لحزب الله، وهو اقل الواجب واضعف الايمان. فصائل مثل الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية دفعت بعدد من شبابها، وحماس أطلقت صليات محدودة، وكل ذلك كان ضمن تنسيق مع الحزب وتحت مظلته. لكن الضربة الإسرائيلية جاءت قاسية، استهدفت بنية حزب الله، واغتالت قيادته، وضربت مراكزه، وهجرت ودمرت قرى الجنوب ومعها بدأ التوتر في الداخل اللبناني على ايقاع اقليمي يحاول الاسثمار بالفرصة. ولأن الدولة تتهيب ملف سلاح حزب الله وتعقيداته، توجّهت الأنظار نحو الحلقة الأضعف: السلاح الفلسطيني.
زيارة محمود عباس المقررة إلى بيروت خلال هذا الشهر/مايو 2025، كما كشفت تقارير اعلامية، لن تكون بروتوكولية، بل حاملة لطلب دولي اقليمي بنزع السلاح الفلسطيني في لبنان، “ولو بالقوة”، ضمن مشروع دولي وإقليمي يشمل إيران وغزة ولبنان. وهنا مكمن الخطورة: حين تتحول السلطة الفلسطينية، التي لا تملك شرعية كاملة في الداخل الفلسطيني، إلى أداة خارجية لفرض نزع السلاح على اللاجئين، فإن ذلك لا يعني إلا محاولة إعادة تعريف المخيم، لا باعتباره رمز النكبة، بل بصفته مسألة إدارية. يصبح اللاجئ في لبنان رعية للسلطة، لا صاحب حق، وتتحوّل البندقية إلى عبء يجب التخلص منه لا رمزًا يجب حمايته.
ورغم كل هذا التهويل، فإن ما يُسمى “سلاح المخيمات” ليس سوى بقايا مهترئة من زمن الحرب. بعض الفصائل القديمة تحتفظ بأسلحة خفيفة لم تُفعَّل منذ سنوات. حماس تمتلك بعض السلاح في الجنوب لكنه مؤطر بقرار حزب الله لا أكثر، أما الجهاد فلا يملك سلاحًا مستقلًا أصلًا. الفوضى الأكبر موجودة خارج هذه الفصائل، في شبكات المخدرات، وفي الشباب المحبط، وفي الفراغ الذي خلّفته الدولة والفصائل على السواء. وما يُراد للمخيم اليوم هو أن يُصوَّر كمستودع سلاح، لتبرير إجراءات أمنية هدفها لا السيطرة، بل الإلغاء.
السلاح في المخيم ليس مجرد قطعة حديد، بل وثيقة سياسية. تنظيمه ممكن، بل ضروري، لكن بشرط أن يُعاد تعريف العلاقة بين الدولة واللاجئ على قاعدة الكرامة، لا الشك. هناك مبادرات جرى طرحها سابقًا: لجان أمنية مشتركة، تسويات للمطلوبين، تسهيل إدخال مواد البناء، ربط السلاح بضوابط سياسية، معالجة ملف الحقوق المدنية.. لكنها اصطدمت دائمًا بجدار انعدام الثقة، والانقسام الفلسطيني وباستخدام الورقة الفلسطينية كورقة ضغط داخلي أو إقليمي.
مخيم عين الحلوة اليوم يقف على شفير نهر البارد جديد. الخطر ليس في السلاح فقط، بل في الرسالة: إن تم تفكيك عين الحلوة، فإن آخر ما تبقى من خصوصية رمزية للفلسطيني في لبنان يكون قد سقط. المخيم، الذي يضم كل الفصائل، ومئات العائلات المهجّرة، وتاريخًا طويلًا من المواجهة، قد يتحول إلى ساحة تفكيك جديدة، لا لتسوية، بل لتصفية.
السلاح الفلسطيني في لبنان ليس مشروع حرب، بل مشروع ذاكرة. بندقية اللاجئ ليست تفصيلًا تقنيًا، بل صدى لعقود من النكبة والتهميش والخذلان. ومن يطالب بنزعها دون ضمانة، إنما يطلب من الفلسطيني أن ينزع عن نفسه ما تبقى من المعنى.
فالسؤال الحقيقي ليس عن “منع الرصاصة”، بل عن حماية الكرامة. والمخيم، إذا فُجّر، لن يُخرِج فقط أصواتًا غاضبة، بل سيُسقِط الصفحة الأخيرة من كتاب العودة، ويفتح صفحة جديدة اسمها: التوطين او التهجير.
إن الدولة اللبنانية، إذا أرادت حماية نفسها، فعليها أن تبدأ من الجذر: من الحقوق، من الكرامة، من العدالة، لا من قمع الحلقة الأضعف. أما الفصائل الفلسطينية، فمسؤوليتها هنا مضاعفة. لا يكفي أن ترفع شعار “المقاومة” او حصرية التمثيل، بينما تُفرّط باللاجئ، وتغرق في الحسابات الصغيرة، وتخوض معارك داخلية على شرعية متآكلة. لا يكفي أن تُحافظ على السلاح، بينما تُهمل الجيل الجديد، وتتركه فريسة المخدرات والبطالة والاغتراب. ما لم تتجدد المرجعية الوطنية الفلسطينية في لبنان، على أساس وحدة التمثيل، ووحدة المصير ووحدة الهوية السياسية، فإن البندقية ستتحوّل إلى عبء حقيقي لا إلى رمز.

إن البندقية ليست قدَرًا، لكن الكرامة كذلك. وما لم يُطرح البديل العادل، فإن نزع السلاح سيكون الخطوة الأولى نحو نزع المعنى. وكما كتب درويش: 

“ما تبقّى لكم… هو هذا المخيم، فلا تتركوه يُنسى كما نُسيت قراكم.” 

وهذا ما يقاتل اللاجئ من أجله: لا كي يحمل بندقية، بل كي لا يُنسى.