عبدالواحد عبدالله شافعي: قراءة في كتاب (مصادر تاريخ  الصومال ومراجعه) للدكتور محمد حسين معلّم

عبدالواحد عبدالله شافعي: قراءة في كتاب (مصادر تاريخ  الصومال ومراجعه) للدكتور محمد حسين معلّم

عبدالواحد عبدالله شافعي

ذكر المؤلف في مقدمة كتابه الأسباب التي دفعته للكتابة في هذا الموضوع، اِذْ إنّ اختياره للتخصص في التاريخ في المراحل الاولى من دراسته الجامعية في جامعة أم القرى، جعله يدرك الصعوبات التي تواجه الباحث في التاريخ الصومالي، خاصة من حيث المصادر والمراجع المطلوبة لإنجاز بحثه. ومنذ ذلك الوقت كانت تراوده فكرة سدّ هذا الفراغ في المكتبة الصومالية. وبعد سنوات من البحث والكتابة في تاريخ منطقة القرن الأفريقي بصفة عامة وتاريخ الصومال على الخصوص، وقف المؤلف عن كثب على المعاناة التي يلاقيها الباحث في هذا المجال؛ لتناثر المادة العلمية الخاصة بتاريخ هذه المنطقة في بطون مصادر متنوعة في حقب زمانية مختلفة، وتأكدت لدى الكاتب الحاجة الماسة إلى بذل جهد علمي لكتابة دليل علمي، يهدي الباحث إلى معرفة مصادر تاريخ الصومال؛ خدمة للعلم، وتوفيرا للوقت والجهد، فشمّر الدكتور عن ساعد الجد، وبحث عن مصادر تاريخ الصومال في مظانها، فنقّب عن المراجع، وفتش عن المخطوطات، ووقف على الآثار والنقوش، وكلّل جهوده بهذا السفر النفيس الثمين، ووضع أمام الباحث ثمرة هذا الجهد الجبار، الذي يغنيه عن الضياع في متاهات البحث عن مظان مادته العلمية. ومن منحك المصدر، فقد يسّر لك المسلك، وذلّل لك الدّرب الوعر.
خصّص الدكتور الفصل الأول من كتابه لدراسة تمهيدية عن التاريخ والمؤرخين، وما يتعلق بهذا الموضوع من التعريف بعلم التاريخ، وأهميته، وتطوره عبر العصور القديمة إلى العصور الحديثة، وصفات المؤرخ، وما يحتاج إليه من المناهج البحثية، والصفات الشخصية للنجاح في بحثه، وسلّط الأضواء كذلك على الفرق بين المصدر والمرجع، وأهمية المخطوطات والنقوش والآثار والصكوك والمخلفات، وغير ذلك من الموضوعات الضرورية للبحث التاريخي. وهو فصل مهم ومفيد للمتخصص المتضلّع في علم التاريخ، وللشادي به غير المتخصص الظالع على السواء.
وزّع المؤلف الفصول الثلاثة الباقية على التحقيب التاريخي عبر العصور، فخصّ الفصل الثاني منه بالعصور القديمة، والفصل الثالث بالعصور الإسلامية، والفصل الرابع بالعصور الحديثة. وفي كل فصل يسرد المؤلف الموضوعات التاريخية لذلك العصر، ويعطيك معلومات تاريخية عن الموضوع، ثم يذكر المصادر والمراجع، يكتب المصادر الأولية أولا، ثم يتلوها بذكر المراجع والبحوث. ولقد نبّه الباحث إلى ندرة المصادر خاصة في العصور القديمة من تاريخ الصومال، لقلة المصادر المكتوبة فيها، وضياع كثير من المخلفات والآثار، وذلك لانهيار الدولة الصومالية، وما نتج عنه من ضياع الآثار والمخطوطات المحفوظة بالمتاحف الوطنية والمعاهد العلمية المختصة. وأشار إلى أهمية المعلومات التاريخية التي تركها المصريون القدامي الفراعنة في تلك العصور القديمة عند تدوين رحلاتهم التجارية إلى بلاد البونت (الصومال)، وما خلّفوهم من النقوش والكتابات على الجدران في المعابد.
ويلاحظ في الفصل الثالث المخصص للعصور الإسلامية اهتمام المؤرخين والجغرافيين المسلمين في العصور الوسطى في الكتابة عن منطقة القرن الأفريقي، إلا أن الصعوبة تظهر في تتاثر هذه المعلومات في ثنايا تلك المجلدات الضخم. ولفت المؤلف الانتباه أيضا إلى أنّ جلّ تلك المعلومات التي كتبها هولاء العلماء المسلمون في العصور الإسلامية الأولى لم تكن عن طريق المشاهدة أو الرحلة السخصية، وإنما كانت عن طريق الأخذ من علماء أهل منطقة القرن الأفريقي الذين كانوا يلتقونهم في مراكز علوم الحضارة الإسلامية في الحرمين ومصر وبغداد وغيرها، مما يؤكّد من حاجة الباحث إلى مزيد من التيقظ والتثبّت والتفحص والتمحيص عند تعامله مع هولاء المصادر.
ولما انتهى المؤلف في الفصل الرابع المخصص للعصور الحديثة نلاحظ تحوّلا كبيرا في مصادر تاريخ الصومال، اِدْ ازدادت الكتابة في تاريخ الصومال زيادة ملحوظة منذ الحقبة الاستعمارية، وظهرت منذئذ كتب مخصصة مفردة في تاريخ البلاد، بعد أن كانت المعلومة التاريخية قبل ذلك متناثرة مبعثرة في بطون مصادر مختلفة في العصور  الإسلامية الأولى، أو نادرة شبه منعدمة في العصور القديمة. ويدل على ذلك الوفرة في المصادر والمراجع التي سردها المولف في العصور الحديثة مقارنة بالعصور السابقة.
ويلاحظ أيضا أن معظم الكتابات في تاريخ الصومال في العصور القديمة والوسطى كانت من كتاب غير صوماليين، ولكن منذ الاستقلال وبناء الدولة الوطنية الحديثة، طرأ تغيّر ملموس في هذه المعادلة، وبرزت الأقلام الصومالية المشاركة في كتابة تاريخ بلدهم تزداد وتتطور تدريجيا، حتى بلغت أوجها بعد انهيار الدولة الصومالية، ورحلة كثير من الطلاب إلى الخارج؛ لمواصلة دراساتهم، خاصة في الجامعات العربية، وعلى الاخص في جامعات مصر والسودان. وكان من نتيجة ذلك كله أن اختار كثير من الطلّاب الصوماليين في بحوثهم عناوين لها علاقة بتاريخ بلادهم؛ مما أثرى المكتبة الصومالية أيّما إثراء، وأفاد الباحثين. وهذا دليل على أنّ انهيار الدول لا يستلزم بالضرورة انهيار المجتمعات. وفي بعض العصور الإسلامية ما يوكّد هذه الفرضية ويؤيده، اِذْ إنّ ضعف الدولة الإسلامية، وتفككها، وحتى احتلال اجزاء منها في القرنين السابع والثامن الهجريين، لم يمنع أن نبغ فيهما نوابغ من ائمة العلم والفكر، أثرت المكتبة الاسلامية، وخلّفت وراءها إرثا علميا ضخما.
وإن كان لي ملاحظة في الكتاب، فإنما هي ملاحظة واحدة يتيمة، اِذْ لم يتبع المؤلف منهجا موحّدا في الفصول الأربعة، وإنما أوردًكثيرا من المعلومات التاريخية في الفصل الأول والثاني،  خاصة في الأول، وناقش الروايات التاريخية تفنيدا وترجيحا، ومن خلال هذا النقاش يشير إلى المصادر المعتمدة، ولعلّ هذا يشوّش ذهن القاريء الذي قد يجد نفسه مضطرّا لقراءة جملة من النقاشات التاريخية المفصّلة قبل الوصول إلى مبتغاه في العثور على المصدر والمرجع. بينما نرى في الفصل الرابع أن الكاتب يكتفي بذكر معلومات مختصرة مكثّفة جدا عن الموضوع، ثم يبدأ بذكر المصادر والمراجع، ولا يكتفي المؤلف هنا بالسرد فحسب، وانما يشرع في إلقاء ضوء كاشف على محتويات هذا المصدر والمرجع، و وبيان أهميته، وخلاصة البحث، وذكر نتائجه، وغير ذلك من الفرائد التي تفيد الباحث، وتعطيه لمحة مهمة عن المصدر. وددت لو أن المؤلف قلّل من الخوض بالتفصيل في الوقائع التاريخية، وسلك في الفصل الثاني والثالث مسلكه في الرابع.
وبعد، فهذا جهد جبّار مشكور من باحث شغوف بعلم التاريخ، خبر تعقيداته، وسبر تعرجاته، وعانى من الصعوبات التي تواجه المؤرخ في بحثه عن التاريخ، خاصة إذا كان هذا التاريخ متعلقا بأمة اجتمعت عليها المتناقضات، واصطلحت عليها الأضداد، من وفرة الحضارة وندرة التدوين، وأهمية الموقع الجغرافي وإهمال المؤرخين، وثراء المكان وجدب الزمان. تأمل الدكتور محمد حسين معلم ذلك كله، فعقد العزم على أن ينصف أمته من ظلم التاريخ وإهمال المؤرخين، فنظر وقدّر، فرأى أعلام حضارته مطموسة، فكتب كتابه (عباقرة القرن الأفريقي) ثم نظر إلى تراث هؤلاء الأعلام يعلوه غبار العصور، فنهض لنفض هذا الغبار عنه، وكتب كتابه (الثقافة العربية وروادها في الصومال) ثم فكّر في دليل شامل يهدي الباحثين، ويزيل العقبة الكؤود في وجه تاريخ بلده، فانكب على هذا السفر الثمين، وسدّد البوصلة، فأرشد إلى المصادر، ودلّ على المراجع، فلم يترك لمعتذر عذرا، ولا لمقصّر حجة.
ولما التقيت بالمؤلف الدكتور محمد حسين معلّم في لندن في عام ٢٠٢٣، قلت له في أثناء حديثنا: لقد أديت زكاة العلم يا دكتور، ومن صيانة العلم بذله وإنفاقه، فقال في تواضع العالم: ما كان لي هذا، لو لم تسعفني ظروف سانحة، وأوقات مواتية. قلب الدكتور محمد معلّق بالكتب، ومن علّق قلبه بالكتب، فقد أوتي خيرا كثيرا. وعندما تجالسه تلاحظ أن أكثر حديثه يدور في الكتب والتصنيف، وهمَه أن ينفض الغبار عن تاريخ أمته، ويحيي ما اندثر من آثارها وحضارتها وجهود أعلامها وعلمائها، فكل مؤلفاته على تعدد موضوعاتها وتنوع مجالاتها، فإنها تنصبّ على تحقيق هذا الهمّ، فهو يدرك أن نهوض الأمم يبدأ من العودة إلى الجذور، وإحياء ما عفى عليها الزمن من تراثها وتاريخها، حتى تستعيد ثقتها بنفسها، وتكون أهلا للتحليق، متكئة على تراث تالد وتاريخ عريق؛ وهذا ما قام به رّواد الفكر في تاريخ جميع الأمم، ولذلك ندب نفسه للقيام بهذه المهة، ورابط على ثغر من ثغور الفكر والعلم والتصنيف، فأثرى المكتبة العربية، وأهدى لأمته جهدا تتوارثه الأجيال. ودّ الدكتور لو كان الناس مثله، ويطلب عند الناس ما عند نفسه، اِذْ أنه يشجع من يظن فيه خيرا بالكتابة والتصنيف، ويضيء له الطريق، بل ويرشده الى مشاريع بحث تستحق الكتابة.
ويطلب عند الناس ما عند نفسه … وذلك ما لا تدعيه الضراغم.

الكتاب من مطبوعات دار الفكر العربي، القاهرة، الطبعة الأولى  (٢٠٢١)، ومكوّن من مقدمة وأربعة فصول.