شوقية عروق منصور: حسن وفاطمة من غزة

شوقية عروق منصور
يتسع الأفق ويركب الريح وتصبح الأصوات نايات مثقوبة بالوجع أما الأصابع فهي تتلاشى رويداً رويداً وتصبح البصمات دموعاً تتساءل إلى متى ؟؟ ” حسن وفاطمة ” هذا العنوان ليس تقليداً لفلم ” حسن ونعيمة” الذي كتبه عبد الرحمن الخميسي في سنوات الستينات ، وأظهر حكاية الثأر في القرية المصرية ، ولكن ” حسن وفاطمة ” حكاية العصافير التي تتحدى الأقفاص .
” اشهد يا عالم علينا وعلى بيروت
” أشهد للحرب الشعبية
واللي ما شاف من الغربال يا بيروت
أعمى بعيون أمريكية “
كلمات هذه الأغنية التي كتبها الشاعر الفلسطيني ” أحمد دحبور” ومن الحان ” حسين نازك” وغناء الفنان ” حسين المنذر” مع فرقة العاشقين ، والتي انطلقت عام 1982 حيث وثقت هذه الأغنية صمود المقاومة الفلسطينية واللبنانية أثناء اجتياح الجيش الإسرائيلي لمدينة بيروت وفيها إشارة إلى الخذلان والصمت العربي ، ولم يصمت التاريخ كأنه يقوم بتخزين المواقف في الذاكرة والصفحات ، وسرعان ما يبعث هذه المواقف من جديد بأصوات وأصابع وذاكرة جديدة .
الصبي الغزاوي ” حسن علاء عياد – 12 عام ” أحب الغناء وقد ساعده صوته الطفولي الجميل على حمل رسالة الحرب والخذلان ، حيث قام بغناء ” اشهد يا عالم ” ولكن قام بتغيير كلماتها ” اشهد يا عالم علينا وهدموا بيوت … والعرب بنومة هنية “
وتحولت اغنية ” اشهد يا عالم” إلى واجهة شبكات التواصل الاجتماعي، حيث التاريخ ليس وجوه الزعماء و مهرجانات الخطابات، ولكن التاريخ مرايا تربط الأحزمة وتقول هذه هي صوركم السابقة ما زالت كما هي تمارسون رياضة الصمت والانتحار الجماعي على أبواب الكرامة .
ويقفز الخبر بأن الصبي ” حسن علاء عياد ” قد استشهد جراء قصف ” مخيم النصيرات في غزة ” قد يكون خبر استشهاده خبراً عادياً في أجواء القصف الجنوني ، ولكن رغم قسوة الموت و الرحيل اعتبر صوت الصبي ” حسن عياد” صرخة وجع صادقة حركت الصور التاريخية للأنظمة والشعوب العربية التي غرقت بصمتها في بيروت وتمتد السنوات العجاف الأخوي العربي العالمي إلى غزة الآن .
رغم أن كل شيء في غزة يصرخ ومن الحماقة أن نكتب عن استشهاد ” صبي ” بينما ارقام الأطفال والصبيان والشيوخ والنساء اللواتي يستشهدن يومياً أصبح أمراً عادياً ، إلا أن هذا الصبي ” حسن” كان صوتاً صارخاً بمرارة الطفولة راكضاً في أزقة وحارات ومخيمات قطاع غزة ،حافياً إلا من صوته مردداً ” اشهد يا عالم ” .
فاطمة حسونة – أضحك الصورة تطلع حلوة –
استعير العنوان الذي يوحي بالفرح ” أضحك الصورة تطلع حلوة ” للممثل الرائع أحمد زكي ، لكن في غزة لا يوجد صورة حلوة ، واذا خرجت بعض الصور فيها ضحكات عابرة يكون خلفها شلالات من الدموع وطوفاناً من الآهات الصارخة .
في احد المؤتمرات قال ” إسحاق شامير ” رئيس وزراء إسرائيل السابق ، اقتلوهم بعيداً عن الكاميرات ، ولكن لم يعرف ” شمير” آنذاك ان الكاميرات أصبحت مثل رغيف الخبز وشربة الماء ، حتى أسهل من ذلك ، من الصور القادمة من ” غزة ” نرى الكاميرات تصور الجوع والعطش والزحف والهروب من مكان إلى مكان ، حيث تصبح الوجوه التي عانقت الجوع حقولاً من الصبر ، متشققة ، تنتظر داخل الزمن وخارجه حضور الرغيف .
في الحرب على غزة كانت وما زالت الكاميرات هي النوافذ التي يطل منها سكان قطاع غزة على العالم ومع أن العالم يدير ظهره لهم ، لكن إصرار الكاميرات على البقاء يقظة يجعل منها صورة وصوتاً صفحات تاريخية لا يمكن تكذيبها .
” فاطمة حسونة ” مصورة صحفية فلسطينية ، وثقت بفضل كاميرتها حياة المدنيين في غزة ، الدمار ، النزوح ، الخيام ، الجوع ، العطش ، الدموع ، الفقدان ، الأمراض ، الخوف .. الخ وقد قامت بعمل الفلم الوثائقي ” ضع روحك على يدك وامش ” وقد عُرض في عدة مهرجانات .
” فاطمة ” الشابة الصغيرة – مواليد 2000 – استشهدت في غارة جوية على منزلها ، وقد كتبت عندما وجدت فلمها الوثائقي وصورها التي عرضت في معارض دولية ، و التي تحولت إلى صرخات إنسانية غزية منشورة في كل مكان ( مبسوطة إنه لسا صوري قاعدة بتلف كثير أماكن وبتنباع وإنه يمكن صوري تضل عايشة أكثر مني ، وهذا مخليني مرتاحة ) .
في التحليق فوق الرماد وفوق الأسماء هناك الوجوه التي تنهدت ورحلت ، ولكن ظلالها ستبقى تلاحق الأيام والسنوات وتكون عنواناً لتاريخ يبدو من الخارج عتمة ولكن في داخله الأحلام الصلبة .