حمد التميمي: نظرية نقار الخشب: حين يتحول الإنجاز إلى ضجيج قاتل!

حمد التميمي: نظرية نقار الخشب: حين يتحول الإنجاز إلى ضجيج قاتل!

 

 

حمد التميمي
هناك شخصيات تعيش بيننا، تعمل بجد، تتقن مهامها، تسبق الجميع بخطواتها، لكنها لا تستطيع أن تمر مرور الكرام دون أن تترك أثرًا صاخبًا، وكأن وجودها لا يُكتمل إلا بإزعاج الآخرين. هذه الشخصية ليست مجرد زميل عمل، أو فرد في العائلة، بل ظاهرة اجتماعية يجب التوقف عندها وتحليلها بعمق. البعض يظن أن النجاح وحده يكفي لتبرير الضوضاء التي يحدثها هذا النموذج، لكن النجاح الحقيقي لا يقاس فقط بالإنجاز، بل بمدى تأثيره على محيطه. وهذا ما يجعلنا نفتح النقاش حول نظرية “نقار الخشب”، التي تسلط الضوء على تلك الشخصية التي تحفر طريقها، ولكن بضجيج يصم الآذان.
في كل بيئة اجتماعية، سواء في العمل، العائلة، أو حتى دائرة الأصدقاء، يوجد ذلك الشخص الذي لا يعرف الراحة. يعمل بجد، ينجز المهام بسرعة ودقة، لكنه في الوقت ذاته يملأ المكان بالضجيج، بالكلام المستمر، وبمحاولات جذب الانتباه إلى إنجازاته. هو شخصية فعالة، لكنه أيضًا عقبة أمام الآخرين في بيئة تحتاج إلى التركيز والتناغم. هذه الظاهرة تُشبه سلوك طائر نقار الخشب، الذي بالرغم من مهارته الفريدة في البحث عن الغذاء وبناء مسكنه، إلا أن صوت نقره المستمر يصبح مصدرًا للإزعاج.
هذه الشخصية في بيئة العمل تبرز بانتظامها وإصرارها على تحقيق أهدافها، فهي لا تتقبل الفوضى، وتحرص على تنفيذ الأعمال بدقة، وغالبًا ما تكون الأسرع في الأداء والأكثر إتقانًا في تنفيذ المهام. بالإضافة إلى ذلك، تتمتع بالذكاء وتعدد المواهب، حيث تجيد مواجهة التحديات المختلفة بمهارة وفاعلية، كما أنها تحرص على الالتزام والمسؤولية في كل ما تقوم به، مما يجعلها عنصرًا مؤثرًا في الفريق. إلا أن الجانب السلبي لهذه الشخصية لا يقل وضوحًا عن إيجابياتها، فهي كثيرًا ما تتذمر وتشكو من قلة تقدير الآخرين لها، كما أنها لا تفوت فرصة للتفاخر بإنجازاتها وكأنها ترغب بإثبات ذاتها بشكل مُلحّ. إلى جانب ذلك، تتسم بالانتقاد المستمر لزملائها، فبدلاً من التركيز على عملها، تمضي وقتها في تصحيح أخطاء الآخرين والتنظير حول كيفية تحسين عملهم. هذه الشخصية تعظم إنجازاتها بشكل مبالغ فيه، وتقلل من قيمة جهود الآخرين، مما يخلق بيئة مشحونة بالتوتر، حيث يصبح من الصعب الحفاظ على روح الفريق وسط هذه النزعة الفردية. بل إنها قد تتحول إلى مصدر للفتنة داخل الفريق، إذ تثير التوتر بتلميحاتها المستمرة حول عدم كفاءة الآخرين أو بالتلميح إلى أن نجاح الفريق يعتمد فقط عليها.
في العائلة، تتجلى شخصية نقار الخشب في التزامها الشديد بمسؤولياتها، فهي مثل الطائر الذي يحفر بيته قبل الزواج ليكون مستعدًا للحياة الجديدة. ورغم أن هذا الالتزام يعكس جانبًا إيجابيًا، إلا أن تأقلمها مع المتغيرات يكون محدودًا، فهي مثل البدو الرحل الذين يتنقلون بحثًا عن بيئة أفضل، لكنها تظل غير مستقرة في مكان واحد. التعاون أيضًا صفة بارزة لدى هذه الشخصية، فهي دائمًا تسعى إلى مساعدة أفراد العائلة، لكنها في نفس الوقت تفرض سيطرتها بشكل غير مباشر، وتجعل من وجودها محوريًا بطريقة قد تكون مربكة للبقية. كما أنها تحمل روح المسؤولية، حيث تسعى دائمًا إلى تقديم كل ما تستطيع من دعم لعائلتها، تمامًا كما يفعل نقار الخشب عندما يحفر أماكن خطرة لجلب الطعام لصغاره.
على مر التاريخ، يمكننا رؤية نموذج “نقار الخشب” في شخصيات بارزة، ومن أبرز الأمثلة القيصر نابليون بونابرت. كان نابليون قائدًا يتميز بالذكاء والإصرار وسرعة الإنجاز، لكن في نفس الوقت كان يُحيط نفسه بضجيج مستمر، سواء عبر تصريحاته النارية أو حروبه التي لا تهدأ. كان ينجح في السيطرة على المواقف بسرعة، لكنه أيضًا كان مصدرًا لتوتر مستمر داخل دائرته، إذ كان ينتقد قادته بلا هوادة ويضع نفسه دائمًا في مركز الأحداث، حتى عندما كان يجب أن يترك الآخرين يؤدون أدوارهم. وكما هو الحال مع شخصية نقار الخشب، انتهى به الأمر إلى فقدان كل شيء عندما أصبح الإزعاج أكبر من الإنجاز، فتلاشى تألقه في ظل ضجيجه العالي.
التعامل مع هذه الشخصية يتطلب وضع حدود واضحة، إذ تحتاج إلى إدراك أن النجاح لا يقاس فقط بمدى إنجاز الفرد، بل بكيفية تحقيقه دون إزعاج أو تعظيم الذات. إشراكها في مهام جماعية يمكن أن يكون مفيدًا لمنع شعورها بالفوقية، وكذلك مساعدتها على فهم تأثير سلوكها السلبي على الإنتاجية العامة للفريق. كما أن الثناء والتقدير يجب أن يكونا بحكمة، بحيث تحصل هذه الشخصية على الاعتراف بجهودها دون أن يتحول الأمر إلى تضخيم لدورها على حساب الآخرين. النجاح الحقيقي لا يكمن فقط في الإنجاز الفردي، بل في مدى قدرة الإنسان على تحقيقه بشكل متوازن، دون أن يصبح مصدرًا للإزعاج في بيئته.
هل أصبح الإزعاج سمة ملازمة للنجاح؟ وهل على الجميع تحمل الضوضاء التي يصنعها البعض لمجرد أنهم قادرون على الإنجاز؟ النجاح ليس منصة للتباهي، ولا يحق لأي شخص أن يحوله إلى مصدر توتر لمن حوله. وبينما يدق نقار الخشب بلا توقف بحثًا عن رزقه، يحق لنا أن نتساءل: هل العمل الفعّال يحتاج إلى ضجيج ليكون مُقنعًا، أم أن الهدوء هو لغة العظماء الحقيقيين؟
كاتب قطري