د. خالد فتحي: علال الفاسي وأهداف التنمية المستدامة: فكرٌ يتجاوز زمنه

د. خالد فتحي
في زمن تتكاثر فيه الشعارات، وتتناقض فيه النماذج التنموية، يبرز اسم علال الفاسي كصوت فكري متفرد، نجح في صياغة مشروع نهضوي مغربي مستقل، سبق في جوهره ما بات يُعرف اليوم بأهداف التنمية المستدامة. لذلك، حين نطرح مسألة التعادلية الاقتصادية والاجتماعية في فكره، فإننا لا نختبر مفهومًا معزولًا، بل نضع منظومة فكرية متكاملة أمام محك العصر، عصرنا نحن، في امتحان نظري عسير… لكن فكر علال الفاسي لا يخذل.
لقد صاغ علال الفاسي مفهوم “التعادلية” بمنهجية دقيقة قائمة على التوازن العميق، لا على التوفيق السطحي. فالغاية عند هذا المفكر الملتزم بقضايا وطنه وأمته، لم تكن إرضاء مدرسة اقتصادية أو ممالأة إيديولوجية، بل بناء إنسان مغربي حر، واعٍ، متدين، وفاعل في بيئته. وهذا الإنسان لا يمكن أن ينمو في بيئة يسيطر عليها الظلم الاجتماعي، ولا يزدهر في اقتصاد يعبد المال ويقهر الكرامة.
هنا تتجلى قوة فكر علال الفاسي: فهو لا ينحني للتبعية، ولا يهرب إلى طوباوية حالمة، بل يصوغ الممكن انطلاقًا من الذات المغربية، بأدوات الواقع وروح القيم الإسلامية.
بهذا المنهج، بلور علال الفاسي فلسفة التعادلية لا كمجرد رؤية اقتصادية، بل كنموذج متكامل للحياة، يعكس تصوره العميق للمجتمع الذي ينبغي أن يكون. لم تكن التعادلية عنده شعارًا سياسياً للاستقطاب، بل حجر الزاوية في أي إصلاح اقتصادي أو اجتماعي شامل.
ولعل هذه الرؤية هي ما يجعل فكره يتجاوز حدود الزمان والمكان، ليجد صداه اليوم في توافق واضح مع ما يسمى “أهداف التنمية المستدامة” التي طرحتها الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة. ومع ذلك، قلّة فقط من تدرك أن العالم قد اكتشف متأخرًا ما كان علال الفاسي يطرحه منذ عقود.
إن الوهج الأممي لمفهوم “أهداف التنمية المستدامة” قد يوحي للبعض بأنها مفاهيم مستوردة، لكن الغوص في فكر علال الفاسي يكشف عن رؤية مغربية استبصارية، صاغها هذا المصلح الوطني لمرحلة ما بعد الاستقلال، برؤية متقدمة تتجاوز حتى حدود السياق الذي عاش فيه. فقد ناقش قضايا الفقر، التعليم، العدالة بين الجنسين، والنمو الشامل، بوصفها أعمدة أساسية لبناء مغرب العدالة والكرامة.
لكن الفارق الجوهري أن علال الفاسي لم ينظر إلى هذه القضايا كأهداف معزولة، بل رآها ضمن شبكة مترابطة من الإصلاحات: دينية، تربوية، اقتصادية، سياسية وثقافية. ولم يكن يراها مجرد سياسات حكومية، بل رسالة حضارية تستوجب انخراط المواطن، لا كمستهلك للخدمات، بل كشريك فاعل في البناء.
التقاطع مع أهداف التنمية المستدامة
من اللافت أن فكر علال الفاسي يلامس بدقة أهداف التنمية المستدامة الـ17:
القضاء على الفقر (الهدف 1): نادى بإعادة توزيع الثروات بشكل منصف، ليحصل كل فرد على نصيبه العادل.
القضاء على الجوع (الهدف 2): اعتبر الجوع إهانة للكرامة الإنسانية، ودعا لتحقيق الأمن الغذائي.
الصحة الجيدة (الهدف 3): دافع عن الحق في الرعاية الصحية كشرط من شروط الكرامة الإنسانية.
التعليم الجيد (الهدف 4): رأى في التعليم مفتاح نهضة الأمة، ودعا لتعميمه وتطويره.
المساواة بين الجنسين (الهدف 5): تبنّى تمكين المرأة، واعتبره ضرورة مجتمعية وليس ترفاً.
الماء النظيف والطاقة والسكن (الأهداف 6، 7، 11): شدد على حق المواطن في الموارد الأساسية عبر دولة اجتماعية عادلة.
العمل اللائق والنمو الاقتصادي (الهدف 8): دعا لاقتصاد وطني يحترم الكرامة ويوفر فرصًا لائقة للجميع.
الصناعة والبنية التحتية (الهدف 9): رأى ضرورة التحديث والتنمية الصناعية بما يخدم الإنسان.
الحد من الفوارق (الهدف 10): اعتبر التفاوت الطبقي خطرًا يهدد الوحدة الاجتماعية.
المدن المستدامة (الهدف 11): آمن بضرورة العدالة المجالية في التوزيع العمراني والموارد.
الاستهلاك المسؤول (الهدف 12): شدد على ضبط النزعة الاستهلاكية بروح دينية وأخلاقية.
العمل المناخي (الهدف 13): دعا لحماية البيئة كواجب حضاري وديني.
السلام والعدالة والمؤسسات القوية (الهدف 16): كان حكم القانون والعدل الاجتماعي جوهر مشروعه السياسي.
الشراكة من أجل التنمية (الهدف 17): نادى بالتضامن الإقليمي، خاصة بين دول الجنوب.
فكر يتجاوز الامتحان النظري
إن اختبار فكر علال الفاسي في ضوء هذه الأهداف ليس تكريمًا، بل غربلة جادة تكشف عن حيوية مذهلة لهذا المشروع الفكري في زمن التحولات المتسارعة. والمفارقة أن هذا الفكر يبدو اليوم أكثر نضجًا وانسجامًا من كثير من السياسات المرتجلة التي تُعرض علينا باسم الحداثة.
لقد نجح علال الفاسي في هذا الامتحان النظري لأنه فهم منطق العصر، دون أن يفقد البوصلة الأخلاقية. انتصر للفئات المهمشة، دون أن يقع في فخ الصراع الطبقي، وصاغ فكرًا مغربيًا حرًا، لا تابعًا ولا مغتربًا.
الوفاء الحقيقي: التنزيل والتفعيل
ليس من الوفاء لهذا المفكر الكبير أن نظل نردد اسمه في الخطب والمناسبات. الوفاء الحقيقي يتمثل في تحويل فكره إلى سياسات عمومية، وبرامج تعليمية، وخطط تنموية تعيد الاعتبار للإنسان في عالم يزداد جفافًا.
التحدي الحقيقي يكمن في الانتقال من النظرية إلى الممارسة. فلا يكفي أن نتغنى بفكر علال الفاسي، بل يجب تفعيله من خلال إصلاحات ملموسة، في مختلف قطاعات الدولة والمجتمع. وهذا واجب يقع في مقدمة الصفوف على من ينتسبون لمدرسته الفكرية والسياسية، لا باعتبارهم ورثة، بل بصفتهم أمناء على مشروعه.
علال الفاسي… مشروع أمة لا فكرة عابرة
إن تنزيل فكر علال الفاسي اليوم لم يعد ترفاً أكاديمياً، بل هو ضرورة حضارية. فالمغرب، بما يملكه من رصيد تاريخي وفكري، مؤهل لأن يقدم نموذجًا للتنمية المتوازنة والعادلة في العالم العربي والإفريقي.
علال الفاسي لم يكن مفكرًا عابرًا، بل مشروع أمة. ومن لم يفهم رسالته، سيظل يعيد إنتاج نفس الإخفاقات، مهما رفع من شعارات أو غير من عناوين.
وفي النهاية، لا يزال فكر علال الفاسي يشع نورًا، وعلينا أن نحرص على ألا يبقى مجرد إرث فكري محفوظ في الرفوف، بل أن يتحول إلى مشروع حيّ، يتفاعل مع هموم الناس، ويجيب عن تطلعاتهم.
السليمانية