اياد أبو روك: قصة علم فلسطين في مدينة نرويجية باردة

اياد أبو روك
أعيش في إحدى المدن النرويجية الصغيرة مدينة يكسوها الثلج شتاءً وتحوطها الجبال الشاهقة من كل جانب حيث تنتصب الأشجار العتيقة المتجذرة في الأرض منذ مئات السنين وكأنها تروي تاريخ الأرض وسيرتها الطويلة. في كل صباح وأنا متجه إلى عملي عبر الطرقات الهادئة كنت ألقي بنظري من نافذة السيارة إلى مشهد أصبح جزءاً من تفاصيل يومي: علم فلسطيني يرفرف على شرفة إحدى الشقق وسط عمارات متسلسلة مشهد بسيط لكنه كان قادراً في كل مرة أن ينتزع مني ابتسامة دافئة تلك الابتسامة التي كانت تقول في داخل قلبي إننا هنا موجودون في كل بقعة من بقاع الأرض وأنه لا قوة قادرة على أن تقتلع منا أحلامنا وأمانينا وارتباطنا العميق بفلسطين اعتدت رؤية العلم صيفاً وشتاءً تحت الشمس الساطعة وتحت الثلوج المنهمرة حتى أصبح بالنسبة لي علامة صباحية لا تكتمل رحلتي إلى العمل بدونها. ومع مرور الأيام لم يعد الأمر مقتصراً على العلم نفسه بل امتد فضولي واشتياقي إلى أن أعرف قصة هذا العلم وصاحبه الذي يصر على إبقائه مرفوعاً رغم تقلبات الطقس وصقيع الشتاء القاسي. وذات صباح بارد ومع تساقط خفيف للثلج لمحت في الشرفة رجلاً مسناً يجلس بهدوء خلف العلم يدخن سيجارته ويحدق بعيداً ملامحه كانت قريبة من القلب فيها دفء غريب وألفة لا تفسير لها وكأنني أعرفه منذ زمن بعيد. مررت بسيارتي وابتسامتي تتسع رغماً عني وشعرت بشغف كبير يدفعني لمعرفة هذا الرجل وحكايته وما الذي جعله يرفع علم فلسطين بكل هذا الاعتزاز وسط مدينة أوروبية هادئة لا علاقة لها بضجيج القضية ولا بأحزاننا التي نحملها في أوطاننا الأصلية.
مرت الأيام وتكرر المشهد أمامي حتى صار عادة صباحية لا تكتمل إلا بها. وفي يوم من أيام الإجازة قررت أن أتنزه في المدينة الصغيرة وأجلس لبعض الوقت في أحد المقاهي المنتشرة في شوارعها. وبينما كنت أمشي متأملاً سكون المدينة لمحت الرجل ذاته جالسا على طرف مقهى صغير يدخن سيجارته ويحتسي قهوته وكأنه يسرح في ذكريات بعيدة ويعلق في رقبته سلسله يضع فيها علم فلسطين. توقفت قليلاً ثم تشجعت وتقدمت نحوه ألقيت عليه التحية وقلت له بابتسامة صادقة: مرحبا أيها الفلسطيني. رفع رأسه ناحيتي وعلى وجهه علت ابتسامة واسعة كمن التقى بأحد أهله ورد على بتحية دافئة تفيض وداً ودعاني للجلوس. جلست معه، وهناك بدأت حكايته تتفتح أمامي كما تتفتح زهرة في صباح دافئ بعد ليلة باردة. قال لي إنه يدعى أبو احمد يبلغ من العمر اثنين وسبعين عاما وإنه هاجر مع أسرته من مدينة يافا تلك المدينة الفلسطينية الجميلة التي كان البحر يعانقها كل صباح وكانت رائحة البرتقال فيها تعبق الأزقة والشوارع. حدثني كيف اضطروا لمغادرة وطنهم الحبيب تحت تهديد السلاح حيث كان الاحتلال يزحف على القرى والمدن ينشر الرعب بين الناس ويقتلعهم من أرضهم عنوة روى لي تفاصيل الرحلة الأولى تلك الرحلة التي لم يكن لهم يد فيها حين حمله أبوه على كتفه وهم يركضون تحت جنح الليل لا يحملون معهم سوى خوفهم وآمالهم المجهضة وقال لي إنهم عبروا إلى مصر أولاً حيث عاشوا بعض السنوات ثم إلى سوريا ثم تنقلوا حتى استقر بهم المطاف أخيراً في العراق وطن ثان احتضنهم رغم كل أوجاع اللجوء. جلس يحدثني عن المخيمات والمدن والمنافي عن مرارة الفراق عن تفاصيل حياة اللجوء حين تتحول الغربة إلى هوية جديدة قسرية دون أن تقدر أن تمحو الانتماء الحقيقي المرسوم في القلب.
كان حديثه مشبعاً بالشجن ولكن رغم كل الألم الذي حملته كلماته لم يكن ينطق باليأس بل بالأمل والإصرار الأمل الذي يتشبث بأهداب الذكريات ولا يسمح للنكبات أن تسرق منه حلم العودة. قال لي إن العلم الفلسطيني المعلق على شرفته هو عهد بينه وبين نفسه عهد بأن تبقى فلسطين حاضرة في حياته لا تخبو ذكراها ولا تضعف مهما امتدت السنوات أو تباعدت المسافات وأضاف وهو يبتسم ابتسامة حزينة: ربما لم أعد أستطيع العودة بقدمي، لكن روحي هناك، معلقة بين أزقة يافا وأسواقها القديم.
منذ ذلك اليوم، أصبح للرجل مكانة خاصة في قلبي وصار العلم الفلسطيني بالنسبة لي أكثر من مجرد قماش ملون صار قصة حب وصمود وإصرار صار حكاية حياة كاملة تختصر معاناة شعب وأمل وطن.
كل صباح، وأنا أذهب إلى عملي أرفع رأسي نحو شرفته وأرى العلم يرفرف بكل عناد في وجه الرياح الشمالية الباردة وأبتسم بنفس الابتسامة التي أصبحت طقساً صباحياً مقدساً بالنسبة لي كأنني أحيي فلسطين في ذلك العلم وأحيي روح أبو احمد الذي حملها معه أينما ذهب.وهكذا علمتني رحلة صغيرة في مدينة ثلجية أن الوطن لا يسكن الأرض فقط بل يسكن القلوب، وأن اللاجئ لا يحمل معه فقط ذكريات الهجرة بل يحمل روحه كاملة محمولة على أمل العودة مهما طال الغياب . أن العلم الفلسطيني حين يرفع وحده بلا رايات الأحزاب ولا شعارات الفصائل يكون أكثر نقاء وصدقا لأنه يمثل جوهر القضية بعيداً عن كل الانقسامات التي مزقتنا وأبعدتنا عن حلمنا الأول. إن العلم الفلسطيني وحده هو قصتنا الحقيقية هو وحدتنا الباقية فوق كل الخلافات هو صورتنا النقية التي يجب أن نحملها ونرفعها في كل مكان كرمز للأمل للعودة، وللحق الذي لا يسقط بالتقادم.
كاتب فلسطيني