عدنان نصار: مظفر النواب بين العمق الأدبي والوعي السياسي..

عدنان نصار: مظفر النواب بين العمق الأدبي والوعي السياسي..

عدنان نصار

يحظى الوعي السياسي عند غالبية الأدباء من مختلف الأجناس الأدبية بإهتمام خاص، إذ لا يمكن الفصل بين القوة الأدبية وحضورها الملتزم، والسياسة ووعيها المعرفي بشكل قد يختلف من مثقف الى آخر، غير الوعي السياسي يعد الوعاء المعرفي للأدبب، وهو الإرث السليم في الأدب السليم، وبدونهما قد يلحق الموت المبكر لأي مشروع أدبي لا يستند الى الوعي السياسي والإنساني.
كنت قد ألتقيت بالشاعر العربي العراقي الراحل مظفر النواب في العاصمة السورية دمشق في صيف عام 2003، وتحديدا في مقهى هافانا وسط دمشق ، وهو بالمناسية مقهى ثقافي يجمع كل ألوان الثقافة والفكر والفن الملتزم ..هناك، تحدثنا مظفر النواب وأنا في حوار صحفي غير مألوف بعد قطيعة صحفية للشاعر الراحل استمرت نحو عقد من الزمن ..، لم يكن “أبو عادل” وهي كنية الشاعر النواب المحببة ، راغب في الحوار ، ولم يثق للحظة أن أجابته على أسئلتي قد تحظى بموافقة النشر من رئيس تحرير يومية العرب اليوم الأردنية آنذاك الأستاذ طاهر العدوان، ألا أن وعدي للتواب بنشر إجاباته دون إجتزاز ، فقط سنتدخل بلغة التحرير دون إغفال للمعنى ، وعليه وافق النواب رحمه الله .
أعترف؛ لقد تقصدت أن يكون الحوار إستثنائيا، فيه شيء من الإستفزاز، أيضا بقصد إخراج النواب من مربع التقليد الصحفي وإدخاله بدائرة الإستثناء ، حاولت ونجحت بذلك بمنتهى الهدوء المعهود ب”أبو عادل” ولغته الناعمة بالحوار، والخشنة في النقد السياسي، والمتزنة بالنقد الأدبي ..غير أني لم أكن أتوقع أن النواب بكل شاعريته الناقدة والساخطة قد يبكي في الحوار ..لقد بكى في هافانا عندما سألته عن أرستقراطيته الأسرية في صباه ، ثم عرجنا الى “محبوبته” في العام 1958 ، وما جرى بعد ذلك من مطاردة وسجن له ثم الخروج من العراق.
التجذر القومي والوطني والإنساني عند الراحل النواب ،كان بمثابة بوصلة تحدد مساراته الشعرية ، وإستقراء للبعد السياسي في كل أشعاره الثورية والإنسانية والسياسية ..، كان منتميا الى وعي سياسي عميق ، وكتابة شعرية تقشعر أبدان الناس، بصدقيتها وعاطفتها، وتقلق أولئك النائمين على وسائد ريش النعام ..تقلق منام الساسة.!
لقائي مع الراحل الشاعر النواب،  أتسم بلغة إستمرارية، دون وقت للراحة أو إعادة تموضع في صياغة الإجابة ..،بل وتعمدت الى إجترار أسئلة لم تكن على برنامجي ،أستنبطتها من وحي الإجابة ..،وكلها أسئلة طغت عليها السياسة بقالب أدبي ..فوصف النواب للمرحلة السياسية في العام 2003 بالعهر السياسي العالمي، لم يكن إعتباطيا بل قراءة للحاضر، وحين وصف العالم بانه سيمارس “القوادة السياسية” بعد 20 سنة أيضا كان قراءة للمستقبل السياسي بلغة أدبية شعرية وصف فيها ما سيحدث بشعر يعيش العالم مفرداته الآن..! مفردات سياسية وفعل سياسي عالمي لم ينحدر عبر التاريخ الى هذا المستوى من التعفن والإضطهاد الذي يجيء من خلف المحيطات ، ويجعل العالم يسير خلفه مثل ظله ، أو مثل خيل خبل يضع اللثام على عينيه .!
ثمة سلطة مؤثرة تربط بين الأدب والسياسة، وهي سلطة تتحرك وتنفذ بسهولة يؤمن بها كل المتطلعين الى عالم يتكيء على العدل ، ويغازل الحالمين ..سلطة تكون بمنأى عن الأذى الذي يلحقه بها المزيفون من أضرار بأسم الأدب والسياسة في وقتنا الراهن .
النواب في شعره وشاعريته ، ووعيه الكبير أدخلنا في القيم العظيمة لأدب لا يقل عن قيمة فوهات المدافع حين يعلو صوت الظالمين والغزاة .
لملمنا أوراقنا النواب وأنا ، وقبل أن نغادر “هافانا ” ربت على كتفي الفنان السوري الملتزم عباس النوري ، فيما طبعت شاعرة بحرينية قبلة على جبين مظفر .!

كاتب وصحفي أردني ..