د. جمال الحمصي: أين التميز في مراكز الدراسات العربية والإسلامية: نحو تأسيس وحدات لإنقاذ المجتمعات (وليس السيارات) العربية

د. جمال الحمصي: أين التميز في مراكز الدراسات العربية والإسلامية: نحو تأسيس وحدات لإنقاذ المجتمعات (وليس السيارات) العربية

 

د. جمال الحمصي

بالرغم من القيود التنظيمية على مراكز الفكر العربية والإسلامية، لكن هذا لا ينفي وجود جوانب ضعف داخلية، هيكلية واجرائية، لدى العديد من هذه المراكز البحثية القُطْرية والإقليمية والدولية، سواء تلك المرتبطة بالقطاع الجامعي أو مستقلة عنه (متواجدة داخل القطاع العام أو الإعلام).
فلا يمكن على سبيل المثال، مقارنة أي مركز فكر عربي أو اسلامي قائم حالياً مع قدرات مؤسسة راند Rand Corporation المعروفة بتحليل قضايا الاسلام السياسي وبناء الدول من منظور ليبرالي. ومن المثير للاهتمام مقارنة مراكز الفكر الإسلامي الريادية مع مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بمصر ومركز الجزيرة للدراسات بقطر، وكلاهما اعتلى قائمة مراكز الفكر العربية الأكثر تأثيرا حسب تقرير جامعة بنسلفانيا. هذا المقال تشخيص للوضع الراهن أعلاه وحلول مقترحة.

أبرز المعوقات الهيكلية والتنفيذية:
تتسم مراكز الفكر العربية والإسلامية بالتنوع وعدم التجانس الواسع، لكن النتائج التنموية لها هي دون التوقعات لأسباب متفاوتة. وننوه الى ان المعوقات الذاتية عائدة ليس فقط الى نقص التمويل، بل أيضاً الى سمات هذه المؤسسات مثل: البيروقراطية والنخبوية، والبعد عن القضايا المجتمعية الكبرى، والتركيز على البحث النظري الضيق لا التطبيقي، والاعتماد شبه الكامل على شبكة خارجية متقادمة من الباحثين، وغياب الابداع.
فمثلاً، العديد من المراكز العربية والاسلامية تهتم بالكتب والأبحاث وليس بالندوات الحوارية، والأوراق التطبيقية النقاشية، وتقارير السياسات المختصرة (Policy Briefs) التي تستشرف سيناريوهات المستقبل العربي (مثال: وضع الشباب العربي) وتسعى الى تقييم السياسات العامة في مجالات ذات أولوية.
أما الأسلوب التقليدي في عملية التحكيم العلمي لمخطوطات الكتب والأبحاث فهي تعاني من مثالب عديدة، تشمل: ندرة المتخصصين في المواضيع الجديدة، وضعف الحوافز المالية لقاء التحكيم السري، وعوامل التحيز النفسية والثقافية لدى المُحكّمين العرب، وعدم استخدام الذكاء الاصطناعي كخيار مكمل قليل التحيز والكلفة وسريع الأداء.
ويفترض في مراكز الدراسات العربية والاسلامية ان تكون متعددة ومتداخلة التخصصات العلمية تتجاوز علوم السياسة والشريعة الى الاقتصاد والاستراتيجية وتحليل السياسات وفقه السنن، وتستعين بالعلوم المعيارية مثل النظرية الأخلاقية وأصول الفقه ومقاصد الشريعة.

أجندة جديدة وبرامج واعدة:
كنت في مقال سابق (نحو مراكز دراسات جديدة ومتواجدة أكثر فاعلية: 2019) قد أكدت على مجموعة من المشاريع البحثية ذات القيمة المضافة العالية للمراكز التي تعتمد الفكر الإسلامي كمرجعية أساسية، تشمل: (1) استكشاف وتأصيل فقه النهضة وسننها من منظور قرآني معاصر، و(2) تأصيل وتطبيق حقل تحليل السياسات العامة على السياق العربي، و(3) تحديد العلاقة بدقة بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية المعاصرة، و(4) تحديد العلاقة بين الفكر الاسلامي والقضايا المعاصرة كالديمقراطية والحرية والتعددية والتنمية والحوكمة. وهنا ينبغي الابتعاد عن الخطاب البلاغي والنقد البحت والمقاربات النظرية والاقتراب من “حلول” عملية للمشكلات المجتمعية الملحة في العالم العربي.
وفي هذا المقام، أضيف هنا مشروع بحثي كبير واستراتيجي يخدم الأمة العربية، الا وهو مشروع “انقاذ المجتمعات العربية” (كوحدات اجتماعية وليس سياسية). وهو مشروع لم تُعرْه مراكز الدراسات الغربية والعربية ولا المانحين الدوليين والمؤسسات العربية المشتركة الاهتمام المستمر الذي يليق به، نظراً لتركيزها تقليدياَ على تطوير الاقتصاد العربي وإصلاحاته الليبرالية الهشة، وإصلاح قطاع الصحة والأمن والتعليم، وأخيراً تعزيز الجندرة والمساواة التامة بين الرجل والمرأة العربية.

مشروع إنقاذ المجتمعات العربية ما بعد الصراعات وقبلها:
المشروع المقترح يقتضي تأسيس “وحدة انقاذ المجتمعات” في مراكز الدراسات والفكر الريادية، للقيام بمجموعة أبحاث تطبيقية، معمقة وموجهة نحو السياسات العامة القابلة للتنفيذ، تختص بحالة المجتمعات العربية في ظل تداعيات الأزمات المتعددة والمتلاحقة منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، ليس من منظور ليبرالي (فردي) بل من منظور علمي وشرعي متكامل يدمج بين علوم الشرع المعيارية وعلوم الواقع.
وبما انه ما لا يمكنك قياسه لا يمكنك ادارته وتحسينه، فان البداية تكون من خلال تأسيس مؤشر عربي متعدد الأبعاد للتماسك الاجتماعي، ضمن محاور ومؤشرات أساسية قابلة للمتابعة والقياس حول: وضع الأسرة النووية في العالم العربي وهشاشتها، وتنامي ظاهرتي الاغتراب وغياب الروابط والمعايير الاجتماعية (الأنومي)، وضعف رأس المال الاجتماعي (الثقة والتعاون المجتمعي)، وضعف الانتماء والهوية الوطنية الجامعة، وانتشار الفقر والجريمة والاستياء وعدم المساواة وسوء توزيع الدخل والثروة.
ولتفادي إعادة اختراع العجلة، ينبغي البدء بمراجعة نقدية صارمة للأدبيات الغربية الحديثة حول مفهوم “التماسك الاجتماعي” المثير للجدل ضمن الرؤية الليبرالية للعالَم!، ومحاور هذا المفهوم، ومنهجيات قياسه، ومؤشراته الغربية المركبة ومتعددة الأبعاد. ويُفترض أيضاً في هذه المراجعة أن تستأنس بتجربة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العالم العربي (2017) في هذا المجال، ومن ثم البناء على فكر ابن خلدون وهذه التجارب الأولية التي توسعت أهميتها بعد وباء كورونا 2020 وبوادر التضخم الركودي 2025 وتداعياتهما الاجتماعية الكارثية على استدامة المجتمعات وعافيتها.
وتتمثل أبرز متطلبات هذا المشروع: توظيف أو التعاقد خارجياً مع باحثين من ذوي الخلفيات الأكاديمية متعددة التخصصات، بعيدا عن دائرة “المعارف” المغلقة والتقليدية، دون تجاهل تخصصي تحليل السياسات العامة وعلم الاجتماع التطبيقي. أما التمويل المستقل فيمكن التخفيف من قيوده من خلال احياء مؤسسة “الوقف العلمي” ودعمها في مجال انتاج الفكر التنموي وبناء الأمم.
وقد يتساءل البعض، وأين دور وزارات التنمية والتضامن الاجتماعي في العالم العربي؟ أتمنى ان يكون لها مساهمة جوهرية، لكن ظواهر البيروقراطية والتعالي والقصور الذاتي هي بالعموم على مستوى أعلى للأسف من نظيرتها في مراكز الفكر غير الهادفة الى الربح، مما يفاقم من التهميش والاغتراب والتطرف.