د. خالد فتحي: قراءة في مجموعة “أنا بنت مين؟” لحسام بدراوي:  حين يُعانق الأدبُ الفكرَ ويُشرّح الواقع

د. خالد فتحي: قراءة في مجموعة “أنا بنت مين؟” لحسام بدراوي:  حين يُعانق الأدبُ الفكرَ ويُشرّح الواقع

د. خالد فتحي
قبل عامٍ ونيّف، قرأت” الكيميرا ” باكورة  الدكتور حسام بدراوي في عالم القصة ، وها أنا اليوم أجدني مشدوداً مأخوذا مجموعته الثانية، “أنا بنت مين؟”، بعد أن اقتنيتها من مكتبة مدبولي العريقة بميدان طلعت حرب. وفي ركنٍ  هادئ من مقهى “الحارة”، المتواري في زقاقٍ جانبي قريب من  ميدان التحرير، شرعتُ أتصفح حكايات بدراوي، متتبعاً خيوطها واحدةً تلو الأخرى. تُطلّ كل حكاية على بيئة مصرية خالصة، وكأنها وُلِدَت من رحم الواقع، ثم صاغها خيال كاتبٍ مبدعٍ يمتلك قدرةً فذّةً على المزج بين الحقيقة والخيال.
الْتهمتُ القصص الست الأولى دفعةً واحدة، ثم غدا الكتاب رفيقي في رحلة لي  من القاهرة الصاخبة إلى السليمانية الهادئة بكردستان العراق ، وهناك أتممتُ قراءة بقية المجموعة. فلا مجال للتمهّل في قراءة نصوص بدراوي؛ ذلك أنه كاتبٌ يتقن امتلاك أدواته الإبداعية، ويأخذ قارئه في رحلة آسرة عبر عوالم شتى تمتد من الطب والسياسة والتاريخ والجغرافيا، مرورًا بالذكاء الاصطناعي، ووصولًا إلى عمق التجربة الثورية.
على غلاف المجموعة، آثر الدكتور بدراوي ألا يصنف نصوصه تحت لافتة “القصص القصيرة”، بل وسمها بـ”حكايات وحوارات”، موضحًا في مقدمته أنها تحمل روح القصة ونكهتها. غير أنني أرى في هذا الاختيار تواضعًا جمًّا لا يحجب عنا  براعته الفائقة في فن القصة القصيرة. فمن الواضح أنه نهل من معين كبار هذا الفن، وتشرب أصوله ومبادئه، وحتى حين يتجاوز القوالب التقليدية، فإنه لا يغادر فضاء هذا الفن الرحب، بل يشقّ فيه دروبًا جديدة تحمل بصمته المتفردة.
حسام بدراوي، شخصيةٌ موسوعيةٌ، يدفعه شغفٌ دائمٌ بالتطوير؛ في مهنته كطبيب، وفي انتمائه لوطنه، وفي سعيه الدؤوب لتنمية ذاته. وهذا الشغف يتجلى بوضوح في إبداعه الفكري و الأدبي. يستهلّ مجموعته بسردٍ ماتعٍ لحكايته الشخصية، ثم يقدّم في الفصل الثاني إحدى عشرة حكاية تنبض بالواقعية، ليختتمها بثمانية حوارات فكرية عميقة في الفصل الثالث.
أما من حيث الأسلوب، فقد انتهج حسام بدراوي في هذا المؤلَّف نهجًا أدبيًا مبتكرًا، يمزج فيه بمهارة فائقة  بين البنية السردية للقصة القصيرة والروح التحليلية للمقالة الفكرية. فهو لا يكتفي بسرد الحكايات والحوارات على نحوٍ خطيٍّ صرف، بل ينسج ضمن خيوطها تأملات فلسفية رصينة، وإسقاطات سياسية ذكية، واستشهادات منتقاة بعناية من أقوال المفكرين والعظماء، مما يضفي على نصوصه طابعًا فريدًا يجمع بين وهج الأدب وعمق الفكر.
فالقصة والحوار لديه ليسا مجرد وسيلة للتسرية أو الترفيه، بل هما أداتان فعالتان لفهم العالم، وتشريح الواقع المصري بكل تعقيداته، وإثارة الأسئلة الملحة والمؤرقة. لذا، يمكن القول إنه يبتكر ما يشبه “القصة المقالة”، حيث تتضافر الحبكة والشخصيات مع المفاهيم المجردة والرؤى النقدية. هذا الأسلوب المتفرد يمنح القارئ متعة السرد الأدبي وعمق الطرح الفكري في آنٍ واحد، ويحوّله من مجرد متلقٍ سلبي للأحداث إلى شريكٍ فاعلٍ في عملية التفكير.
يُعد الفصل الأول بمثابة سيرة ذاتية مكثفة ومُقطّرة: يستعرض فيها نشأته في المنصورة، ومسيرته الدراسية، والتأثير العميق لوالده ووالدته في تكوينه، وتخيلاته الطفولية عن حرب 1956، ومشاعره المتأرجحة تجاه شخصية عبد الناصر بين وهج الزعامة ومرارة الانكسار، وصولًا إلى نشوة النصر في حرب 1973. كما يروي بصدقٍ دوافع اختياره لدراسة الطب، ويصور حالة الاستقطاب التي شهدتها مصر بين التيارات اليسارية والإسلامية، وما صاحبها من تراجع لصوت العقل والحكمة.
وعرّج بدراوي في سيرته على شغفه بالرياضة وحبّه العميق للنادي الأهلي، كما استعرض مكابداته في دهاليز السياسة ومعترك الانتخابات النيابية، وتجربته النضالية على رأس لجنة التعليم ومشاركته الفاعلة في مجلس حقوق الإنسان. لم يُخفِ انحيازه لليبرالية الاجتماعية كطريق ثالث يوفّق بين جموح الرأسمالية وجمود الاشتراكية، ولا توجّهه الدائم نحو الإصلاح كخيار واقعي وحكيم. وقد أضاء جانبًا إنسانيًا ثريًا من شخصيته برحلته المتأخرة في تعلّم الرسم بعد الستين، وبحواراته المستمرة مع صانعي الغد والحالمين به. كل تلك التجارب يقدّمها بسخاء للأجيال الشابة، ليجعل منها زادًا يلهمهم ويضيء دروبهم.
يسرد بدراوي هذه الأحداث بعمقٍ لم يتأت له   إلا من معايشةٍ واعيةٍ لها، بعقله ووجدانه. لكنه في سرده هذا لا يتحدث عن ذاته فحسب، بل يقف أيضًا كشاهدٍ أمينٍ على تحولات وطنه الكبرى؛ فتبدو سيرته الشخصية كعدسةٍ نرى من خلالها ملامح مصر وتطوراتها منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا. في هذا الفصل، تمتزج الذات بالموضوع، وتتحول السيرة الفردية إلى مرآةٍ تعكس سيرة جماعية، مشبعة بالوعي النقدي، والجرأة في المكاشفة، والصدق في التعبير. أحيانًا، يخال القارئ أنه أمام بيان سياسي محكم، أو وثيقة شخصية تكشف للمصريين عن بعض أسرار الثورة وتقلبات المرحلة، وكل ذلك مصاغٌ بالفعل “بمزاج القصة” الساحر.
وهكذا، يتكشّف لنا أننا أمام سيرتين متوازيتين ومتداخلتين في هذا العمل: سيرة الكاتب بهمومه وتطلعاته، وسيرة الوطن بآلامه وآماله.
في قصة “مينا في كل زمان”، يتجلى البطل “مينا” كرمزٍ خالدٍ لا يُقهر، كفكرةٍ عابرةٍ للأزمنة، وكامتدادٍ لروح “كيميت” (مصر القديمة) الأزلية. إنه المصري الذي وحّد الإله قبل نزول الأديان، وهو صانع الحضارة ومنبعها. وها هي “كيميت” قدنزفت من جديد في القرن الحادي والعشرين، رازحةً تحت سطوة فرعونٍ جديد، لكن “مينا” نهض كعادته  دائمًا، مثل طائر الفينيق، وأسقط الطاغية.مينا هذا يظهر كلما اشتدت الحاجة إلى يقظة الأمة وضميرها. القصة حبلى بالرموز الدالة: فرعون، عتريس، كيميت… بل إن الدكتور بدراوي نفسه يطلّ عبر هذه الرموز، متقمصًا أحيانًا دور “مينا”، وراسمًا مسارًا للوعي الممتد عبر الأجيال. وفي ختامها، يلمّح بذكاء إلى أن روح مصر، المتجسدة في “مينا”، هي القادرة على بناء المستقبل، حين تنصهر فيها عراقة التراثين الإسلامي والمسيحي في بوتقة واحدة.
أما في فصل “الحكايات”، فيغوص بدراوي في أعماق حياة الناس، ويصور واقعنا المعاش بأسلوبٍ يقترب من الوثيقة الأدبية المفعمة بالحياة. وتُعتبر قصة “أنا بنت مين؟” درة المجموعة وجوهرتها المحورية. تطرح هذه القصة إشكاليات أخلاقية وقانونية بالغة الدقة والتعقيد، أفرزها التقدم العلمي المذهل في مجال الطب الإنجابي: من هي الأم الحقيقية؟ أهي التي تمنح الجينات؟ أم هي التي تحمل الجنين، وتقاسي آلام المخاض، وتتولى الرعاية والتربية؟ وهل يمكن للعلاقة التربوية والعاطفية أن تتغلب على الرابطة البيولوجية أو تلغيها؟
إنها قصة تثير الحيرة والقلق، قد تكون وليدة خيال طبيبٍ واسع الأفق، أو ربما تعكس تجربةً واقعيةً مرّ بها الكاتب أو شهدها عن كثب. لكن المؤكد أنها تطرح سيناريو ممكن الحدوث في عالمٍ تتشابك فيه خيوط التكنولوجيا المتقدمة مع أعمق المشاعر الإنسانية. تدق القصة ناقوس الخطر، وتطرح أسئلة وجودية مقلقة حول مستقبلنا كبشر، في زمنٍ قد تتحول فيه البويضات والنطاف إلى مجرد سلعٍ قابلة للتداول في الأسواق، مما يهدد بتجريد الجسد البشري من إنسانيته وقداسته.
يحذر بدراوي بتبصّر من أن التكنولوجيا، حين تفقد بوصلتها الأخلاقية، لا تقود إلى التقدم الحقيقي، بل إلى المزيد من التشويش والإرباك للوعي الإنساني. تتميز القصة بجرأتها الصادمة في الطرح، وبذكاء نهايتها المفتوحة التي تتجسد في عبارة: “ولا بد أن للقصة بقية”، وكأنه يدعو القارئ إلى مواصلة التفكير والتأمل، وإلى الانخراط في حوارٍ مجتمعيٍّ جادٍّ للبحث عن إجابات شافية.
وفي تقديري، تتجاوز القصة أبعادها المباشرة، لتقدم رؤية رمزية عميقة؛ فالأم البيولوجية قد ترمز إلى “الأصالة” والجذور، بينما تمثل الأم الحاضنة “الحداثة” والتطور. أما البطلة “هناء”، فهي ثمرة هذا الصراع الظاهري، وفي الوقت نفسه، هي الأمل في تجاوزه. ورغم التناقض المحتمل بين هذين العالمين، تفتح القصة أفقًا لمصالحة ممكنة، حين تلتقي الأصالة والحداثة على أرضية أخلاقية وإنسانية مشتركة. فهناء لا تحتاج إلى أمٍّ واحدةٍ على حساب الأخرى، بل إلى منظومة قيمية واجتماعية تعترف بكلا الجانبين وتعمل على التوحيد بينهما في تناغمٍ خلاق.
في حكاياته الأخرى، يظل حضور بدراوي ماثلاً في الخلفية، سواء من خلال تلميحاتٍ في أسماء الشخصيات، أو عبر إسقاطاتٍ من سيرته الذاتية وتجاربه الحياتية. ففي قصة “الحاج خالد”، قد نلمح ظلال شخصيته في صورة نائبٍ برلمانيٍّ نزيه مرتبط بالقواعد  منتمي للحزبٍ الحاكم  ، بينما في قصة “عاشور والفجور”، يرسم لنا صورةً مؤلمةً من عمق الواقع الأكاديمي، مسلطًا الضوء على آفة الفساد والمعوّقات التي تحبط عزائم الشباب الطموح والمستقيم. إنها قصة لا تتناول شخصًا بعينه، بل تفضح منظومةً متكاملةً تُخضِع الطموح المشروع لمعادلةٍ مأساوية: إما الاصطدام والتهميش، أو التنازل والمسايرة.
أما في حكاية “هو أنا حرة؟”، فيقتحم بدراوي بجرأةٍ منطقة شائكة تتعلق بقضايا المرأة، ويفتح مساحاتٍ رحبة للنقاش حول مفاهيم كالحجاب، والعذرية، والإجهاض، والطاعة. ويعيد ببراعةٍ تعريف هذه المفاهيم من منظورٍ إنسانيٍّ مستنير: فالحجاب قد يكون خيارًا حرًا يعبر عن قناعة، والعذرية قيمة تتصل بالكرامة الشخصية لا بالجسد فقط، والإجهاض قضية تستدعي حوارًا معمقًا بين العقل والدين، والطاعة العمياء عبئ يثقل كاهل المرأة والمجتمع على حدٍّ سواء. إنها قصة إنسانية مؤثرة، كُتبت بواقعيةٍ آسرةٍ وبساطةٍ غير مخلة، فتقرّب القارئ من شخوصها، وتطرح رسائلها النبيلة دون وعظٍ مباشر أو خطابةٍ منفرة، بل من خلال سردٍ ذكيٍّ وحوارٍ نابضٍ بالحياة.
يأتي بعد ذلك الفصل الأخير، فصل “الحوارات”، الذي يضم نقاشات فكرية ثرية، مصاغة بأسلوب قصصي جذاب، تبدو سهلة في ظاهرها، لكنها تحمل في طياتها معاني عميقة ومركبة. ففي الحوار الأول، المعنون “الحكومة والوطن”، يناقش بدراوي مفهوم الانتماء، ويكشف بوضوح الخلط الشائع بين الوطن ككيانٍ دائمٍ وراسخ، والحكومة كأداةٍ مؤقتةٍ لإدارته. كما يحذر من مخاطر غياب ثقافة الملكية العامة، ويُبرز كيف يتآكل الوعي المجتمعي حين لا يُبنى على أسسٍ متينةٍ من التعليم والتثقيف، وكيف يتحول نقد أداء الحكومة في بعض الأحيان إلى تهمة بالخيانة، بدلًا من أن يُعتبر تعبيرًا صادقًا عن حب الوطن والحرص على مصلحته.
في هذه الحوارات، يستثمر بدراوي رصيده الفكري وخبرته الأكاديمية، ويوظف بمهارةٍ أدوات الفلسفة والتحليل السياسي والاجتماعي والتربوي، ليصوغ لنا ما يمكن تسميته “قصصًا حوارية” ماتعة، تحثّ على التفكير النقدي، ولا تكتفي بمجرد السرد أو عرض المعلومات.
وقبل الختام، لا بد من وقفة: لقد اخترتُ أن أتناول نماذج محدودة من الحكايات وحوارًا واحدًا من هذه المجموعة الثرية، ليس بهدف تلخيصها أو الإحاطة بكل جوانبها، بل للتأمل في مضامينها، وتحليل أبعادها، والكشف عن بعض ما تحمله من رسائل ودلالات. فهي في نهاية المطاف مجرد عينة، ونحن – معشر الأطباء – نكتفي أحيانًا بالعينة للوصول إلى التشخيص، فكيف بعملٍ أدبيٍّ ينبض بالحياة والفكر كهذا؟ لم أشأ أن أفسد على القارئ الكريم متعة الاكتشاف الشخصي، ولا أن أسلب من المجموعة عنصر التشويق الذي يشكل جزءًا أصيلًا من جمالها وسحرها. لذلك، اكتفيت بهذا القدر، مدركًا أن كل حكاية أو حوار في هذا الكتاب هو بمثابة رواية مصغّرة، أو مجلد مكثف، يحمل رحيق فكر الدكتور بدراوي وخلاصة تجربته، يقدّمهما  للأجيال ، وبخاصة الشابة منها، بكل حبٍّ وصدق.
ختامًا: في مجموعة “أنا بنت مين؟”، لا نقرأ أدبًا رفيعًا فحسب، بل نصغي إلى نبض روح رجلٍ استثنائيٍّ جمع بين صرامة العلم وعمق الفكر، بين حنكة السياسة ورهافة الفن، بين منطق العقل ودفء العاطفة. حسام بدراوي لا يكتب بالكلمات وحدها، بل يكتب بتجربته الحياتية الثرية، بتاريخه الشخصي الذي يتقاطع مع تاريخ وطنه، وبإحساسه الصادق بنبض هذا الوطن. كتابه هذا بمثابة دعوة مفتوحة للحوار والتأمل، وللبحث الدؤوب عن المعنى والقيمة في عالمٍ يموج بالتحديات والتغيرات المتسارعة.
إنه لا يقدم لنا إجابات جاهزة أو حلولًا سحرية، بل يضعنا بذكاءٍ أمام أسئلة كبرى، نعيشها يوميًا ونفكر فيها ونتجادل حولها. ولكنه يفعل ذلك دائمًا بلغةٍ إنسانيةٍ دافئة، تحترم عقل القارئ وتستفزه فكريًا، وتحثه على ألا يكفّ عن السؤال.
 “أنا بنت مين؟” ليست مجرد مجموعة قصصية أخرى تُضاف إلى رفوف المكتبات، بل هي محاولة جادة وصادقة لالتقاط روح الواقع المعاصر، بكل تناقضاته الصارخة، وأحلامه المؤجلة، وجراحه الغائرة، وبكل ما تبقى فيه من بصيص أملٍ لا يموت.
كاتب مغربي