شيرين أبو عاقلة… سقوط الحقيقة في غابة الوحوش

شيرين أبو عاقلة… سقوط الحقيقة في غابة الوحوش

 

محمود كلّم

نستيقظ كل يوم على أخبار الموت، على وجوه الشهداء، وعلى قصص القهر المتجددة، حتى باتت حياتنا تُكتب بماء الدموع وتُروى بحبر الظلم. شيرين أبو عاقلة، اسم لم يغب عن قلوبنا منذ أن سُلب منها صوت الحقيقة. قُتلت بدم بارد، برصاصة أُطلقت في وضح النهار، أمام كاميرات العالم وأعينه، لكن العالم أغمض عينيه، كما يفعل دائماً حين يكون المظلوم فلسطينياً.
كأننا نعيش في غابة… لا قانون فيها إلا للوحوش. كل من يُجيد القتل يفلت، وكل من يروي الحكاية يُقتل. لا عدالة في هذا المكان، لا عزاء في قضاءٍ يختبئ خلف المصالح، ولا أمان في زمنٍ تُغتال فيه الكلمة وتُدفن الحقيقة.
حتى بعد أن كشف تحقيق استقصائي هوية قاتل شيرين، لم يتحرك أحد. لا مذكرات توقيف، لا إدانة رسمية، ولا محاكمة تُعيد جزءاً من الكرامة المسلوبة. القاتل عاش ومات جندياً في جيش لا يُحاسب، بينما شيرين ماتت صحفية تمسك الميكروفون كما لو أنها تحمل بندقية من نور. يا لها من مفارقة.
وإن قُتل القاتل، كما نقلت الأنباء، فليس للعدالة فضل في ذلك، بل للقدر، الذي وحده لا يخضع لصفقات السياسة ولا يخاف من الحصانة.
لكن، هل الجندي الذي قيل إنه قُتل، هو فعلاً من ضغط على الزناد واغتال شيرين؟ أم أن التهمة أُلصقت به بعد موته، لطمس الحقيقة وإغلاق الملف بجثة لا تستطيع الدفاع أو الإنكار؟ هل كانت مجرد مصادفة، أم خطة محكمة لتلبيس الجريمة لجنديٍ قتيل، يُغلق به الملف، ويُقنع به الرأي العام، وتمضي العدالة مرةً أخرى في طريق النسيان؟
أما نحن، فما زلنا نعدّ شهداءنا، نحفظ أسماءهم، ونسأل: متى يأخذ المظلوم حقه؟ متى نصحو من هذا الكابوس الكبير؟
نحن نعيش في غابة… حيث لا يسمع أحد صرخة الضحية، وحيث تُزف الحقيقة إلى قبرها وسط صمت قاتل.
رحلت شيرين، وبقي صوتها يطرق جدران الصمت. فهل من أحدٍ يسمع؟
كم هو موجع أن نعيش في عالم يُكافأ فيه القاتل بالصمت، ويُعاقب فيه الشهيد بالنسيان. تمضي الأيام، وتُطوى الصفحات، لكن جرحنا لا يندمل، وصرختنا لا تجد أذناً عادلة. في غابة الوحوش هذه، كل شيء مباح… إلا العدل. وكل شيء ممكن… إلا الأمان. تبكي الأرض شهداءها، ويظل السؤال معلّقاً في الهواء: كم من “شيرين” بعد يجب أن تُقتل ليصحو الضمير؟
ربما لن نعرف يوماً الحقيقة الكاملة، وربما تُدفن كما دُفنت شيرين، بصمتٍ وبلا محاسبة. لكن ما نعرفه جيداً أن هناك صوتاً خُنق، وعدسةً أُطفئت، وحقيقةً أُعدمت أمام عيوننا.
وما نخشاه أكثر، أن يُصبح موت شيرين رقماً آخر في سجل طويل من الغياب والخذلان.
نمّي بسلام يا شيرين… ففي هذه الغابة، لا تُزهر الحقيقة إلا على قبور أصحابها.
كاتب فلسطيني