حين باتت سوريا سوريالية.. فاروق الشرع وبرهان غليون

حين باتت سوريا سوريالية.. فاروق الشرع وبرهان غليون

د. ادريس هاني
من السهولة بمكان تدويخ الرأي عام، قلب الحقائق، الهروب إلى الأمام، لكن سيظل الوفاء للحقيقة آخر ما تبقى من القيم في اجتماع ذلك الكائن الموصوف بالإنسان: ككائن سياسي. هذا التعريف سيندثر مع التطور الدارويني لكائن هارب من ماهيته. هذه الحقيقة تظهر في المشرحة السورية بامتياز، وصداها كما يتردد في أروقة التنظيمات المتطرفة ذات التطلعات الوظيفية الخطيرة في أثرها التخريبي، البلهاء في مضمونها وشعاراتها السطحية.
درس مهمّ يقدمه سقوط سوريا أمام الغزاة وبيادقهم، لا يقف الأمر عند بهلوانية التكويع فحسب، بل ثمّة هاربون بـ”شحّاطاتهم” يستغبون المتلقّي بقلب المفاهيم وتحريف التّاريخ. حين يصف فاروق الشرع الذي كان جزء من النظام منذ التأسيس حتى شطر من ولاية بشّار، يقدّم مغالطة لن تنفع أولئك الذين جعلوا من الحقد السياسي وغريزة التطهير، أيديولوجيا تسند الخراب، ذلك لأنّ هذه الكيدية تمتدّ إلى أبعد من اللحظة التي قرّر فيها خصوم سوريا الإطاحة بكيان عربي كبير، وطبيعي أن يكون لا بدّ هناك من سردية – لا يهمّ مدى سطحيتها – لإكمال المهمّة التخريبية بناء على مُغالطة.
يعتبر فاروق الشرع الرئيس بشّار الأسد بأنه تفوق على هولاكو، وبأنّ له ميولا سايكوباتية، ومثل هذه الزعرنة المفاهيمية مقبولة في سياق التهريج الذي أعقب عملية إسقاط سوريا، هذا ما يطلبه خصوم سوريا، وكل من يريد الملق لعهد النمر الوردي، يكوِّع، لأنّ كل شيء بات مباحا في زمن الغزو والرّشا. أحقاد المتطرفين على سوريا الصامدة هي أقدم من بشّار، ولكن ظاهرة الانبطاح للسياق الملتبس مقبولة في زمن تقدّم المحتل في أعماق سوريا. هل بالإمكان يا ترى أن يحدثنا الشرع وغيره عن هولاكو الاحتلال؟ تغيب إشكالية الاحتلال، ويشغلوننا بتوصيف رئيس لم يسقط بقدر ما كان سقوطه لازمة لسقوط سوريا بكاملها. هل يوجد هولاكو أكبر من حملة الإرهاب والتطهير التي سكت عنها نائب الرئيس الذي استفاد من كل الامتيازات التي يخولها له المنصب، ليغيب لحظة كانت سوريا في حاجة للتحدي. ومع ذلك يزعم الشرع بأن بشار كان أنانيّا وسيكوباتيا، لأنّه بالفعل كان يتصرف بهوس تجاه السيادة. كانوا يراودونه على التنازل، وحين فشلوا، كالوا له الأوصاف بنحو من الإسقاط. هل فاروق الشرع يستغبينا بعد استقالة طويلة من تحمّل مسؤولية المواجهة؟ لو كان الأسد أنانيّا لباع سوريا دون تكلفة.
يدلنا الطّابِع والناشر على طبيعة التشنيع، أولئك الذين تآمروا على بلد واستعملوا الرّشا واستدرجوا الخونة ولا زالوا، ثم يعتبرونها شطارة، لأنّ التاريخ الذي سيعقب هذه المحنة هو التأريخ الشجاع لمن صمد لا لمن دبّ على حوافره على طريق الانتهاية. نعم، كان بشّار غير سويّ، لأنّه آخر من اعتقد بالسيادة القومية، في زمن السقوط، كان غير سويّ لأنّه لم ينظر إلى مصلحته في السلطة، وقد كان يسخر من الثورجية لأنّها كانت مريضة بطلب السلطة، كان بإمكانه أن يبيع عبيد الثورجية في سوق النخاسة بثمن بخس لقاء تنازله عن جزء من السيادة، من الذي أرغمه على مواصلة التحدي، سوى الموقف المبدئي؟ لا يمكن تغيير الحقيقة بالتوصيف، لأنها باتت ظاهرة، وظهورها يتأكد يوما بعد يوم، حيث الاحتلال يعربد على مسافة من دمشق. هو غير سوي، حيث ما استطاع الاحتلال غزو سوريا في عهده، هؤلاء يحتقرون العالم بوقاحة، هؤلاء يشوّشون على الحقائق الجيوسياسية.
من ناحية أخرى، يلتقي أحمد الشرع، الرئيس الذي جاءت به الانكشارية على دراجة هوائية من دون قتال، في باريس، حيث يجلس بجواره برهان غليون صاحب اغتيال العقل، الذي راهن على الديمقراطية والانتخابات، ليتأكد ما أكدناه بلا مواربة، أنّ الثورجية تتلحّف بشعارات مزيفة، لأنّ هدفه المضيّ لتخريب بلد بكامله. منظر الثورجية إلى جوار زعيم النصرة – داعش سابقا – فيحلوا الحديث عن مستقبل سوريا مع زعيم يؤمن بالعودة إلى دولة السّلف الأموي، أي سقوط أكثر من هذا في زمن النصب والاحتيال على المفاهيم. بقي أن نتساءل: أين برناه هنري ليفي الذي يحلم بهذا اليوم العظيم: النصرة في الإيليزيه. وجب تغيير المعجم السياسي السوري، بل ثمة مفاهيم ستدفن تحت أقدام الخونة: الصمود، السيادة، السياسة الاجتماعية، وكل الكلمات المفتاحية التي غادرت مع الأسد ومع المستضعفين اليوم في سوريا، ضحايا التطهير المسنود بصمت دولي وإقليمي. ستسقط كل السرديات العجائبية التي استعملت في تبشيع عهد الصمود، يقابلها صناعة بدائل من سقط المفاهيم، لكن لن يصح إلاّ الصحيح.
لقد تأكّد بالفعل، وبالفعل، أن غاية الثورجية هو السلطة، وبأنّهم مستعدون للتحالف مع الإمبريالية ومع الاحتلال، وهذا في حدّ ذاته هزيمة لكل المشاركين في هذه المؤامرة، حيث المنتصر الوحيد بالفعل هو الأسد ومن معه، أولئك الذين قاوموا حتى آخر رمق، وستحتفظ دمشق لهم بهذا الوفاء، وستكتب اللعنة الأبدية على من باع سوريّا وتواطأ مع الناتو والاحتلال. ماذا سيقول التاريخ عمن اعتبر سقوط سوريا انتصارا وثورة وتحررا؟ لم تعد الحكاية سورية بل أصبحت سوريالية بامتياز.
اليوم لا تكاد الجماعات الوظيفية التي تختبئ خلف أصبعها، تنظر أبعد من أنفها. فهي في وضعية بلهاء. لا يمتلكون الشجاعة ليتحدثوا عن أن رهانهم انتهى بتجاوز مخطط غزّة، إلى تغيير سايكس بيكو ومنح الاحتلال ميزة الأمبراطورية. إن الأغبياء الذين عاشوا على الكيدية السياسية، رسموا أسوأ رهان للمنطقة، لن ينفعهم انتفاخ أوداجهم بكل شعارات التضامن، لأنّ مقتضى لعبة الدومينو هو أنّ إسقاط دمشق هو إسقاط المحيط. للذين استهتروا بهذا السقوط وسموه انتصارا وتحررا، سيرون عجائب انقلاب الصورة. حتى الآن من فاته أن يرى مظاهر انتصارات العبيد، فلينظر إلى المشهد السوريا في سورياليته البهلوانية. وإنّ تمييع مفاهيم الديمقراطية والتحرر والثورة، هو هدف قديم للإمبريالية، ثورات في خدمة حروب التطهير والاحتلال…
كاتب ومفكر مغربي