سماح خليفة: سيكولوجيا الأنساق الثقافية في كتاب “صيّاد.. سمكة وصنّارة” لفؤاد نقّارة

سماح خليفة
“صياد، سمكة وصنّارة” باكورة أعمال المحامي ورئيس نادي حيفا الثقافي، فؤاد نقّارة، الأدبيّة، يقع هذا الكتاب في 200 صفحة من القطع الكبير، تحرير وإشراف: صباح بشير، لوحة الغلاف: صورة للّمؤلف، والإخراج الفني: سمير حنون، وقد صدر عن دار الشامل للنشر والتوزيع، نابلس.
يأتي الكتاب في فصلين، الأول تحت عنوان: “حكايات من شاطئ الصّيد”، وهي عبارة عن أقاصيص من مخزون مذكّراته الحقيقيّة، حيث تعرض بعض الأنساق الثقافيّة ضمن تجربة حياتيّة واقعيّة، تتحرك في دائرة الصّيد والصّيادين والبحر، وقد تناولت مقالتي الفصل الأول، ملحقة ببعض التوصيات.
أما الفصل الثاني تحت عنوان: “أسماك وأحياء البحر الأبيض المتوسط”، تحدث فيه عن عالم الكائنات البحريّة، في حدود تجاربه ومغامراته في البحر، فذكر الأسماك بأنواعها المختلفة، مصحوبة بمعلومات مفصّلة عنها، وحقائق متنوّعة ومثيرة للاهتمام.
كتب الأستاذ فؤاد نقارة قصصه في الفصل الأول، وفي ذهنه دروس وعبر يريد إيصالها للقارئ، من خلال تجاربه المتنوّعة مع رفاقه في رحلاته البحريّة، ومغامراته مع الصّيد والصّيادين، فصرّح بها في نهاية كل قصة، لكن عند تتبع سلوك الشخصيات الواردة في القصص وثقافة الصيد في عالم البحر لديهم، نجد القصص تحتوي على عبر أعمق مما حصره نقارة في خاتمة كل قصة، وكذلك الأمر في عتبة العناوين الفرعية، كما سيتضح لاحقًا، فحبذا لو ترك الكاتب قصصه مفتوحة العبر والدروس أمام القارئ، تعصف ذهنه أحداث القصص؛ فيستخلص العبر المستفادة حسب رؤيته، ووجهة نظره، ومستوى ثقافته، خاصة أنه أورد من الأمثال والأقوال ما يؤكد تلك الفلسفة، كالقول: “إن صيد البحر سر لا يفقهه إلا أهله، أولئك الذين يجيدون قراءة الأمواج، وفهم رموز التيارات”، وكذلك القارئ عليه أن يجيد قراءة السطور وما وراءها بطريقته الخاصة، وفهم الرّموز التي يضعها الكاتب بين يديه، دون توجيه من السّارد العليم (البطل) بسبب خصوصية الفكرة والتجربة في القص، فهي مغامرات وتجارب على القارئ أن يشارك الكاتب فيها؛ لتتحقق المتعة والفائدة.
أعتقد أن القارئ لو تركت له حرية القراءة دون تقييد فكره في نهاية القصة بالعبر التي فرضها نقارة عليه؛ ودون توجيهه وحصره في جمل العناوين الإخبارية؛ لخرج بما هو أعمق وأوسع مما صرّح به الكاتب، وضاعف متعة القراءة لديه، ومن الأمثلة على ذلك:
قصة (2) “صياد يحرج نفسه بمبالغاته في صيد السّمك”، ص17، مشكلة الصّياد بطل القصة لا تكمن في كونه ليس صادقًا، كما وجّهنا السّارد عندما صرّح في نهاية القصة بالعبرة ناصحًا: “أن الصدق خير من المبالغة”، في إشارة إلى أن الصياد كان واعيًا بمبالغته وعدم صدقه، لكنه في الواقع غير مدرك لفعل الكذب أو المبالغة في أقواله وأفعاله، والدليل أنه تفاجأ بوزن السمك القليل، لدرجة أنه ظن الميزان غير دقيق، وطلب من بائع السمك رؤية مؤشر الميزان بنفسه، وهذه الخطوة تدل على أن الصياد يتحرّى الصدق وغير مدرك للفعل المعتاد الذي يقوم به، إذن هو ليس مقيدًا بالنسق الذي يحركه (إيجو) الصياد الماهر الخبير، إنما هو قيد لمنطق النسق (الحقيقة والصورة) الذي يقوم على الاستدلال وليس الأدلجة، والذي تطلّب من الصياد أن يزن السمك أكثر من مرة، وينظر بنفسه إلى مؤشر الميزان ليستدل به على منطق الصورة المخزنة في ذهنه حول الوزن الكبير للسمك الذي يصطاده، حيث غاب عن ذهنه الحقيقة التي نبّهه إليها بائع السمك، عندما قال: “ألم تدرك بعد أن السمك في البحر يسبح بحرية، بينما على الميزان يقف صامتا لا يتحرك لذك ينقص وزنه”، ليظل الصياد يدور في دائرة (المنطق والنسق) و(الحقيقة والصورة)، وهذا يقود إلى الفلسفة التي أشار إليها نقارة في مقدمته، ص11، حيث قال: “الصّيد بالنسبة لي فلسفة أعايشها”، وبرأيي أجد نقارة قد حقق هذه الفلسفة دون وعي وتخطيط مسبق منه، فلو تحقق الوعي والتخطيط لديه قبل كتابة القصة لما أغلق القصة بالدرس (العبرة) الذي فرضه على القارئ وقيّد حرية الفكر لديه.
قصة (1) “رحلة صيد عكّاويّة، وصراع على سمكة، ودرس في الاخوة”، نجد الكاتب هنا يقيد القارئ ويحجر على فكره في العنوان والقفلة، في العنوان، المركب من ثلاث جمل، إسهاب لا داعي له، ص14، فقد وجّه فكر القارئ إلى أن القصة هي درس في التعاون، وكذلك في القفلة “الأخوة والتعاون أهم بكثير من أي مكسب مادي”، ص15، لكن القصة فيها من الفلسفة والدروس والحكمة ما هو أعمق بكثير، والتي تتمثل في طريقة الكاتب (أحد شخصيات القصة) في حل الصراع بين الأصدقاء وخلافهما حول الأحقية في السمكة، حيث اتّبع عدة خطوات منهجية حكيمة مدروسة:
– تقدم منهما بهدوء. – استخدم أسلوب الحوار والنقاش. – استخدم الجمل الاستفهامية: “هل ترضيان بما أحكم بينكما؟، وابتعد عن الجمل الخبرية التي تحتمل الصدق أو الكذب، وذلك لحساسية الموقف بين الصديقين، وبعد قبولهما لحكمه دون إكراه، قام بإلقاء السمكة في البحر دون أن ينحاز إلى أي طرف، ثم قام بتعويض الطرفين.
إذن فؤاد نقارة يدرّس في هذه القصة أسلوب حل المشكلات، لأن فكرة الأخوة عندما تعطى تلقينا لا تكون مقنعة، فلو اكتفى بالقصة دون غلقها بالعبرة، ص15، “الأخوة والتعاون أهم بكثير من أي مكسب مادي”، لكانت القصة مشرعة على فلسفة عميقة أشمل ربما مما وصل إليه، ومما وصلتُ أنا إليه، فلكل قارئ نظرة، ومستوى ثقافي، وقدرة على استنباط الدروس والاستدلال عليها.
قصة (3) “رحلة صيد مباركة”، يتدخل السّارد البطل مرة أخرى في تقييد فكر القارئ، فيخبره برأيه أن رحلة الصيد كانت مباركة، وربما للقارئ قول آخر، وفي القفلة يقول: “حملت درسًا قيّما عن قيمة الصّداقة والكرم”، والحقيقة أن ما حملته القصة هو أكبر بكثير، فهو يعطي درسًا في أهمية اقتناص الفرص من أي مصدر كانت، فلو لم يقتنص الراوي (بطل القصة) فرصة الحصول على طعم “الصبيدن” من الصياد المخضرم لما قام بالاصطياد والحصول على هذا الكم من الصيد الوفير، ولما نفعته الصداقة في تلك اللحظة، فـ “مفتاح حظه في تلك الرحلة، ص18” لم تكن لفتة صديقه، إنما نباهته في اقتناص الفرص، وكم من شخص فقد مهارة اقتناص الفرص التي سُنحت له فأضاع الكثير من مكاسب حياته.
ومن هذا الباب ندخل أيضا إلى العبرة من القصة (5)، ص24، عندما لم يترك السّارد (الشخصية البطل) للقارئ حريةَ التفكير والاستقراء والاستدلال لاستخلاص الدروس المستفادة، فقد حصر العبرةَ من القصة في غرور الشباب ورفضهم للنصيحة، ومن وجه آخر إنما هو حب المغامرة والرغبة في معايشة تجربة جديدة مهما كانت عواقبها، فالتعلم بالتجربة العملية أعظم تأثيرًا وأجدى منفعة وفائدة من النصائح المجردة.
قصة (4) “مغامرة خطرة، ودرس في احترام البحر”، العتبة الأولى والأخيرة في القصة تقيّد القارئ مرة أخرى، فالعبرة لا تكمن في احترام البحر وقواعد السلامة والتحذير من عقوبة التهور، لأن الصيادين الذين اتفقوا على الاكتفاء بالصيد من على السور وعدم المخاطرة، وافقوا صديقهم في النهاية ونزلوا عند رغبته بالإبحار وسط الأمواج العاتية، لكن النتيجة المفاجئة أنه في اللحظة الحاسمة التي تحتّم على الصيادين مواجهة المخاطر والمغامرة، اكتفى صديقهم الذي أصرّ على الإبحار بالانزواء والبكاء والعويل فارغ اليدين من أي صيد، في حين أكمل أصدقاؤه رحلتهم بجرأة مغامرة أفضت إلى صيد وفير في النهاية، فالعبرة الأهم تكمن في القدرة على اتخاذ القرارات في اللحظات الحاسمة، والجرأة في المواجهة بقوة وشجاعة ليكون الربح في جميع الحالات سيد الموقف.
قصة (6)، ص28، “صيد الأوهام وخيط الإيهام”، يشير الكاتب في هذه القصة إلى قضية مهمة جدًا وهي تجارة بيع الوهم واستغلال الدّين في مجتمعاتنا، وقد كان برأيي موفقًا جدًا في ذلك على خلاف القصص السابقة، فقد أوصل رسالته بأسلوب ساخر فيه من الدعابة ما يمرر العبرة والدرس المراد إلى عقل القارئ بسلاسة لم تدفعه إلى التصريح بها، حيث وجدناه حين تحدّث عن الكنيسة الكاثوليكية التي تهتم بشؤون البر، والكنيسة الارثوذكسية التي تهتم بشؤون البحر، مما جعل أحد السائلين يصدقه فذهب مسرعًا للكنيسة الارثوذكسية، داعيًا من الله أن يرزقه رزق البحر، أشار في نهاية القصة إلى أنها مجرد ممازحة، دون أن يتقمّص دور الواعظ “لم يلاحظ أبدا أنني كنت أمازحه فقط”.
الخلاصة: كنت أتمنى على الكاتب لو أنه اعتنى بالفصل الأول أكثر، وأعطاه مساحة أكبر، ومراجعة أوسع لأنه يستحق ذلك، ومن هنا أدعوه إلى تكملة المشوار بكتابة قصص من تجاربه ومذكراته أكثر، وتخصيص كتاب منفرد بها مع العناية بطريقة إخراجها ومراجعتها بحرص أكبر قبل نشرها.
فلسطين