د. معن علي المقابلة: الأسئلة المؤجلة: أزمة فكرية تعيق نهضة الأمة

د. معن علي المقابلة: الأسئلة المؤجلة: أزمة فكرية تعيق نهضة الأمة

 

 

د. معن علي المقابلة
تواجه الأمة العربية والإسلامية أزمة بنيوية لا تنحصر في تحدياتها الاقتصادية أو السياسية فحسب، بل تتجذّر في عمقها الثقافي والمعرفي. فمنذ عقود، لا تزال أسئلتنا الكبرى، المرتبطة بالهوية والتاريخ والنهضة، دون إجابات حاسمة. وبدلاً من أن تكون هذه الأسئلة منطلقًا لحوار حضاري بنّاء، أصبحت سببًا في انقسامات حادة، وأحيانًا صراعات دامية، بين مختلف مكونات الأمة.
يبرز الخلاف أولًا في الموقف من التاريخ، حيث تنقسم الرؤى بين تيارين متعارضين: تيار يعتبر التاريخ عبئًا ثقيلًا يجب التحرر منه من أجل تبني نماذج حداثية نجحت في الغرب والشرق، وآخر يرى فيه مصدر فخر وهوية ومفتاحًا للحلول، مستشهدًا بتراث ديني يؤكد على مركزية الإسلام في نهضة الأمة.
ولا يقل هذا الخلاف حدة عند الحديث عن رموز الفكر والعلم في تاريخنا. فكم من مفكر اتُّهم بالكفر أو الزندقة، كابن رشد وابن سينا في الماضي، أو فرج فودة ومحمد أركون في العصر الحديث، لمجرد أنه خالف السائد وطرح قراءة نقدية للتراث. في حين يرى أنصارهم أنهم قدموا أطروحات تنويرية مهمة، سعت لتحرير العقل من الجمود والانغلاق.
وامتد الجدل إلى الموقف من الدولة العثمانية، التي حكمت العالم العربي لأربعة قرون: هل كانت قوة استعمارية استغلت شعوب المنطقة، أم أنها امتداد شرعي للخلافة الإسلامية التي شكلت درعًا ضد الاستعمار الغربي؟ هذا الجدل تصاعد مؤخرًا، خاصة بعد بروز الدور التركي الإقليمي وصعود التيارات الإسلامية إلى السلطة هناك.
ثم جاءت أحداث “الربيع العربي” لتعمّق الشرخ، إذ اختلفت الروايات حول الزعماء؛ فبين من اعتبرهم رموزًا للشرعية والهيبة، ومن رأى فيهم مستبدين وعقبة أمام التقدم، ازدادت الهوة الفكرية، وأُغلقت نوافذ الحوار، وأُحكمت قبضة الاستقطاب.
إن الانقسام الفكري العميق الذي تعانيه أمتنا لا يمكن تجاوزه دون شجاعة معرفية تضع القضايا الكبرى على طاولة النقاش المفتوح، بعيدًا عن منطق الإقصاء والتخوين. المطلوب اليوم هو حوار جاد تقوده النخب الثقافية، تدعمه مؤسسات المجتمع المدني، وترعاه الجامعات والمراكز البحثية. حوار يعترف بتعدّد الرؤى، ويرتكز إلى قاعدة معرفية نقدية تنأى عن التقديس المطلق للتراث، دون أن تسقط في فخ القطيعة الجذرية معه.
لقد قال الإمام مالك رحمه الله: “كلٌ يؤخذ من قوله ويُرد، إلا صاحب هذا القبر”، مشيرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. أفلا يكون حريًّا بنا، في هذا الزمن المتخم بالأزمات، أن نعيد النظر في ما نأخذ وما نرد، بما يليق بعقل يتطلع إلى النهوض، لا إلى التنازع؟

باحث وناشط سياسي
[email protected]