الاردن: حين فتحنا الأبواب من الداخل… كيف تم اختراقنا؟

ا د هاني الضمور
لم يكن برنارد لويس مجرد مستشرق يجلس خلف مكتبه يكتب عن “تاريخ المسلمين” من وجهة نظر أوروبية متعالية، بل كان أحد أبرز العقول التي وضعت خارطة طريق لتفتيت العالم العربي والإسلامي تحت ذريعة نشر الديمقراطية وتحرير المجتمعات من استبدادها الداخلي. لكن الحقيقة التي يجب أن تُقال ـ بصراحة موجعة ـ إن لويس وأمثاله لم ينجحوا وحدهم. لقد أعطيناهم الفرصة، وفتحنا لهم الأبواب، بل إن بعضنا دلّهم على مفاتيحها.
ما نُسب للويس في خطته لتقسيم المنطقة إلى وحدات طائفية وعرقية وعشائرية، لم يكن مجرّد رؤية فكرية، بل تحول إلى مشروع سياسي وعسكري تبنّته مراكز القرار في واشنطن، ووضعت وزارة الدفاع الأمريكية أطره التنفيذية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تحت مسمى “نشر الفوضى الخلّاقة”. لكن المشروع ما كان ليُنفّذ بهذه الدقة لو لم يجد بيئة قابلة للاختراق، وشعوباً أُنهكت بالتخلف، وحكومات أرهقتها شرعيتها المهزوزة، ونخباً ارتضت أن تلعب دور الوسيط بين الغازي والضحية.
السؤال الجوهري هنا ليس: ماذا أرادوا؟ بل: من منحهم هذه الفرصة؟ ومتى بدأ الاختراق؟
الاختراق لم يبدأ مع الدبابات الأمريكية في بغداد، بل بدأ منذ أن فُصل الدين عن الحياة العامة تحت مسمى “الحداثة”، وبدأت النخب تدير ظهرها لقيم الأمة باسم “الانفتاح”. تم تفريغ الهوية من معناها، وتم تقزيم الانتماء الوطني إلى شعارات موسمية، ثم جاء من الداخل من يتحدث بلسان الغرب وينظر بعينه، ويصوّر دين الأمة وثقافتها بأنها أصل البلاء.
لقد تم اختراقنا عندما استُبدلت القيم بالاستعراض، والتعليم بالتلقين، والوحدة بالتخوين. تم اختراقنا عندما أصبحت الطائفة أهم من الوطن، والعشيرة أهم من الدولة، والحزب أهم من الأمة. تم اختراقنا عندما أصبح الإعلام سلاحاً يُستخدم ضد وعي الشعوب، بدلاً من أن يكون وسيلة لتحصينها.
لم يكن برنارد لويس بحاجة إلى إرسال جيوش، فقد كانت الجبهة الداخلية رخوة بما يكفي. وها نحن نرى ذلك في أوضح تجلياته: عراق ممزق، سوريا محترقة، ليبيا ممزقة، لبنان مخطوف، السودان منقسم، واليمن مثقل بجراحه، والقائمة تطول.
لكن، ليس كل المخططات تحقق أهدافها كما يُراد لها. فالمكر الذي أُحيك بعناية، واجهه في بعض اللحظات وَعْي شعبي متأخر لكنه فاعل. لم يُفلح مشروع التفتيت في بعض الدول كما أُريد له، لأن الشعوب ـ رغم تعبها ـ ما زالت تملك ذاكرة، وتحمل في عمقها جذور هوية لا تُقتلع بسهولة.
اليوم، أمامنا خياران: إما أن نستمر في لوم الخارج والركون إلى نظرية المؤامرة وحدها، وإما أن نراجع الداخل، ونُعيد ترتيب أولوياتنا، ونعيد الاعتبار إلى مشروع حضاري عربي إسلامي يتجاوز العناوين القومية الضيقة، ويركز على الإنسان، والكرامة، والمعرفة، والعدل.
إن برنارد لويس مات، لكن فكره لم يمت. أما نحن، فلن نحيا إلا إذا قررنا أن نواجه مشروعه بمشروعنا، وأن نستبدل التخلف بالنهوض، والانقسام بالوحدة، والضعف بالقوة الأخلاقية والمعرفية. فالمعركة لم تنتهِ، وإنما تأخذ شكلاً جديداً في كل مرحلة.
كاتب اردني