عبدالله العروسي: اليمن وأمريكا: دراسة استراتيجية متعمقة من منظور نظريات القوة والتكلفة والشرعية

عبدالله العروسي: اليمن وأمريكا: دراسة استراتيجية متعمقة من منظور نظريات القوة والتكلفة والشرعية

عبدالله العروسي

مقدمة

في 6 مايو 2025، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقف الحملة العسكرية على جماعة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن، بعد نحو 50 يومًا من العمليات الجوية المكثفة التي بدأت في 15 مارس 2025 تحت مسمى “عملية الفارس الخشن” (Operation Rough Rider).
هذا الحدث يُعد محطة استراتيجية حاسمة في مسار الصراع، ويستحق تحليلًا معمقًا يرتكز على نظريات علمية في العلاقات الدولية، والردع، وتحليل التكلفة، إضافة إلى منظور أخلاقي وشرعي عقلاني بعيد عن المبالغة أو الخطاب العاطفي.

أولًا: السياق العسكري والسياسي للعملية

انطلقت العملية كرد مباشر على استهداف جماعة أنصار الله لعدد من السفن التجارية والعسكرية في البحر الأحمر وخليج عدن، وهو ما اعتبرته الولايات المتحدة تهديدًا حرًا لممرات التجارة العالمية والأمن البحري.
رغم كثافة الضربات (أكثر من 1000 ضربة واستعمال 2000 ذخيرة)، لم تتمكن العملية من تحييد القدرات العملياتية للجماعة، التي واصلت عمليات الإطلاق ووسّعت نطاقها جغرافيًا لتشمل أهدافًا إسرائيلية.

ثانيًا: تعزيز الإطار النظري: تحليل استراتيجي متعدد الأبعاد

نظرية الضغط غير المتناظر (Asymmetric Pressure)

تُشير إلى قدرة القوى الأضعف على فرض تأثير استراتيجي غير تقليدي عبر استهداف مكامن ضعف حيوية لدى الطرف الأقوى، دون الانخراط في مواجهة شاملة.
أنصار الله طبقوا هذا النموذج عمليًا من خلال تعطيل مسار التجارة العالمية بضربات منخفضة التكلفة نسبيًا، لكنها مرتفعة التأثير.

نظرية الردع غير المتكافئ (Asymmetric Deterrence)

تركز على أن الردع لا يتطلب تكافؤًا في القوة، بل يكفي أن يُدرك الخصم أن استمرار الضغط سيؤدي إلى تكلفة غير مقبولة سياسيًا أو اقتصاديًا أو رمزيًا.
هذا ما تحقق فعليًا عندما أدركت الولايات المتحدة أن كلفة الاستمرار تفوق العائد الاستراتيجي المرجو.

نظرية القوة الذكية (Smart Power)

مفهوم ويدعو إلى المزج بين القوة الصلبة (العسكرية) والقوة الناعمة (التأثير الثقافي والرمزي).
استخدم أنصار الله هذه النظرية بوعي، إذ رافق العمليات العسكرية خطاب سياسي وإنساني يربطهم بدعم المقاومة الفلسطينية، مما أكسبهم شرعية جماهيرية عابرة للحدود.

مفهوم تكلفة الفرصة (Opportunity Cost)

يُستخدم في الاقتصاد ولكنه قابل للتطبيق استراتيجيًا؛ إذ إن كل قرار يتضمن التخلي عن خيار آخر ذي عائد محتمل.
كان على واشنطن أن تختار بين مواصلة حملة مكلفة في اليمن أو إعادة تموضع استراتيجي لمواجهة تهديدات أكثر إلحاحًا في بحر الصين الجنوبي وأوروبا الشرقية.

الشرعية الثورية مقابل الشرعية الدولية

في السياقات المضطربة، كما في اليمن، تكتسب جماعة أنصارالله شرعية “ثورية” تستمدها من الدفاع عن قضايا كبرى (كفلسطين أو السيادة الوطنية)، وتتفوق أحيانًا على الشرعية الدولية التقليدية المرتبطة بالاعتراف الأممي.
أنصار الله استثمروا هذا البعد لإعادة تعريف موقعهم كفاعل إقليمي.

ثالثًا: تحليل الكلفة الاستراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها

ماليًا: تجاوزت الكلفة المادية للحملة مليار دولار خلال أقل من شهرين، وفق تقارير متقاطعة.

أمنيًا: لم تُحقق العمليات تحييدًا دائمًا لقدرات أنصارالله، بل أثبتوا قدرة على المناورة والصمود والتكيّف.

سياسيًا: أدت الحملة إلى تآكل جزء من الصورة الأمريكية كضامن للاستقرار البحري، وكشفت حدود فعالية القوة التقليدية في المواجهة.

رابعًا: الرد المنهجي على الانتقادات الجوهرية

الادعاء بالاستسلام أو التراجع

إن قرار حكومة صنعاء بوقف استهداف السفن جاء في إطار اتفاق تبادلي لوقف القصف، ما يشير إلى توازن قسري، لا خضوع.
التاريخ العسكري يعلمنا أن “التهدئة التكتيكية” قد تكون جزءًا من استراتيجيات أعمق لإعادة التموضع أو البناء الداخلي.

تحميل أنصارالله مسؤولية الدمار

الضرر المدني الذي لحق باليمن ناتج عن القصف الأمريكي والبريطاني لا عن استهدافات أنصارالله، الذين استخدموا وسائل دقيقة نسبيًا ضمن قواعد الاشتباك البحرية، ووجهوا ضرباتهم نحو أهداف ذات صلة مباشرة بالصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، أو بتهديد السيادة اليمنية.

خامسًا: الخلفية الاجتماعية والهوية الوطنية كمفسر سلوكي

يعكس السلوك الجمعي لأنصار الله استجابة عميقة لتاريخ طويل من التهميش، والاحتلال، والتدخل الخارجي.
وقد تجذر في الوعي الشعبي خطاب “المقاومة” كمكون من مكونات الهوية الوطنية اليمنية، خصوصًا بعد حرب 2015.
يمكن الاستناد هنا إلى أدبيات إدوارد سعيد وبنديكت أندرسون حول تشكّل الهويات الوطنية تحت الضغط الكولونيالي والعسكري.

سادسًا: البعد الأخلاقي والشرعي الإسلامي

من منظور إسلامي عقلاني، فإن نصرة المستضعفين، ورفع الظلم عن الشعوب، يُعد من أعظم مقاصد الشريعة.
قال تعالى:

“وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان” [النساء: 75].

كما أن الدفاع عن الكرامة والسيادة والوطن يدخل في باب الجهاد الدفاعي، الذي يقره جميع الفقهاء.
والأهم أن هذه المواقف لم تكن شعارات، بل كانت مدعومة بأفعال ملموسة، مما يمنحها شرعية عملية، لا مجرد رمزية.

خاتمة تحليلية

إنّ تجربة أنصار الله في مواجهة القوة الأمريكية تُعد نموذجًا تطبيقيًا معاصرًا لاستخدام استراتيجيات متعددة المصادر:

عسكرية – عبر الردع اللامتناظر.

سياسية – عبر شرعية القضايا العادلة.

اقتصادية – عبر رفع تكلفة الفرصة للخصم.

إعلامية – عبر بناء سردية مقاومة أخلاقية.

هذا التحليل يُظهر أن نتائج الحروب لا تُقاس فقط بعدد الضربات أو المواقع المستهدفة، بل أيضًا بقدرة الطرف المقابل على إعادة صياغة التوازنات، وفرض شروطه، أو تغيير سلوك خصمه.
صنعاء، مايو 2025