نورالدين برحيلة: تحليل قصيدة “سأروي لكم قصة بسيطة”

نورالدين برحيلة
سأحكي لكم حكاية تافهة..
البحر الميت
يرفض
الموت،
وهذه حكاية أكثر
تفاهة:
وطن ميت
يبدع في صناعة
الموت..
وقوارب متآكلة
ليست فارغة،
الطبيعة تعشق
الفراغ..
قوارب الموت،
تمخر عباب
الموت..
تحمل
شبابا
مثقلا بالضياع
ونساء
تسربلن بالأوجاع..
وشيخا طاعنا،
ينخره الصداع..
وطفلة رضيعة
لفظها وطن الضباع..
كانت السماء
الفسيحة،
تكتحل بالسواد،
والليل الدامس
يبتلع النجوم
الكسيحة..
وشهية البحر الميت
تقاوم الموت
ها هو
يبتلع القوارب
الجريحة..
صرخات ميتة
ودعوات يائسة..
ونجاة طفلة رضيعة..
على قطعة خشب
ضائعة..
حكاية وطن ميت
تحكيها
نوارس ميتة..
وهبت أجنحتها
للطفلة الرضيعة..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قصيدة “سأحكي لكم حكاية تافهة” للشاعر نورالدين برحيلة هي نص شعري أشبه بنافورة تتدفق بالألم والأمل، تستلهم من صورة قاتمة وعبثية لوطن يعاني من الموت والضياع. تتسم القصيدة بلغة رمزية قوية، وبنية مقطعية قصيرة تساهم في خلق إيقاع يائس ومتقطع. يهدف هذا التحليل المنهجي إلى تفكيك عناصر القصيدة المختلفة، بدءًا من العنوان وصولًا إلى الخاتمة، للكشف عن دلالاتها العميقة ورؤيتها الفنية.
قراءة في العنوان:
“سأحكي لكم حكاية تافهة”:
يبدأ الشاعر بضمير المتكلم الجمع (“لكم”)، مما يخلق جوًا من المشاركة والتواصل مع القارئ. وصف الحكاية بأنها “تافهة” يحمل مفارقة دلالية قوية. فبينما يوحي بالتصغير واللامبالاة، إلا أنه قد يكون استهلالًا ساخرًا أو محاولة لتخفيف وطأة الواقع المرير الذي سيتم سرده. هذا التناقض يجذب انتباه القارئ ويثير فضوله.
البنية الشكلية والإيقاع:
بنية مقطعية قصيرة: تعتمد القصيدة على وحدات شعرية قصيرة (مقاطع) تتألف من بضعة كلمات أو جمل قصيرة. هذه البنية تخلق إيقاعًا متقطعًا وبطيئًا، يعكس حالة الجمود واليأس التي تهيمن على المشهد.
التكرار: يتكرر لفظ “الموت” عدة مرات في سياقات مختلفة (“البحر الميت يرفض الموت”، “وطن ميت يبدع في صناعة الموت”، “قوارب الموت تمخر عباب الموت”، “شهية البحر الميت تقاوم الموت”). هذا التكرار يؤكد على حضور الموت الطاغي وسيطرته على كل جوانب الحكاية.
التوازي التركيبي: هناك بعض التوازيات التركيبية التي تساهم في خلق إيقاع معين، مثل تتابع الأسماء الموصوفة (“شبابا مثقلا بالضياع / ونساء تسربلن بالأوجاع / وشيخا طاعنا ينخره الصداع”).
الدلالة الرمزية:
تعتمد القصيدة بشكل كبير على الرمزية لتجسيد الواقع المرير:
البحر الميت: يرمز إلى حالة الجمود، الفناء، واليأس العميق. رفضه للموت قد يمثل مقاومة يائسة أو عبثية لهذا الواقع.
وطن ميت: يمثل الكيان الذي فقد حيويته وقدرته على حماية أبنائه، بل أصبح مصدرًا للموت والهلاك (“يبدع في صناعة الموت”).
قوارب متآكلة: ترمز إلى الوسائل الهشة والضعيفة التي يحاول بها الناس الفرار من هذا الواقع.
الفراغ: “الطبيعة تعشق الفراغ” قد يشير إلى أن الفراغ الذي خلفه الموت يجذب المزيد من الفناء.
عباب الموت:يصور الموت كبحر عميق يغرق فيه الجميع.
شبابا مثقلا بالضياع، نساء تسربلن بالأوجاع، شيخا طاعنا ينخره الصداع:يمثلون فئات عمرية مختلفة تحمل عبء هذا الواقع الميت: الشباب المحروم من المستقبل، النساء المثقلات بالأحزان، والشيخ المرهق من الماضي.
طفلة رضيعة لفظها وطن الضباع: تمثل البراءة والأمل المتبقي الذي ينبذه هذا الوطن المتوحش (“وطن الضباع”).
السماء تكتحل بالسواد، الليل يبتلع النجوم الكسيحة:صور قاتمة للطبيعة تعكس اليأس والظلام الذي يغلف المشهد.
شهية البحر الميت تقاوم الموت: مفارقة أخرى تؤكد على حضور الموت الطاغي الذي حتى رموزه تتمرد عليه.
القوارب الجريحة، صرخات ميتة، دعوات يائسة: صور للضحايا والمعاناة التي لا تجد لها صدى.
نجاة طفلة رضيعة على قطعة خشب ضائعة: بصيص أمل ضعيف وهش في قلب هذا الخراب.
نوارس ميتة تحكي حكاية وطن ميت: النوارس، رمز الحرية والروح، تصبح ميتة، مما يؤكد على شمولية الموت واليأس.
وهبت أجنحتها للطفلة الرضيعة: خاتمة مفاجئة ومؤثرة تحمل دلالات التضحية ونقل الأمل أو إرادة البقاء إلى الجيل الجديد.
الأسلوب واللغة:
لغة مباشرة ومكثفة: يعتمد الشاعر على لغة مباشرة وواضحة، لكنها تحمل شحنات عاطفية ورمزية قوية.
استخدام الفعل المضارع: في بعض المواضع (“يبدع”، “تمخر”، “ينخر”، “تكتحل”، “يبتلع”) يضفي حيوية على المشهد، حتى لو كان مشهدًا للموت والخراب.
صور شعرية قاتمة: تخلق القصيدة صورًا بصرية قاتمة ومؤثرة تعكس حالة اليأس والضياع.
المفارقة والسخرية الضمنية: في وصف الحكاية بأنها “تافهة” وفي تصوير البحر الميت الذي “يرفض الموت”، هناك لمسة من السخرية السوداء أو العبثية.
الرؤية الفنية والدلالة الكلية:
مرثية لوطن ميت: يمكن قراءة القصيدة كمرثية لوطن يعاني من أزمة عميقة أدت إلى فقدان الحياة والأمل.
نقد للواقع السياسي والاجتماعي:تحمل القصيدة نقدًا ضمنيًا للظروف التي أدت إلى هذا الواقع المأساوي.
صراع البقاء والأمل الهش: على الرغم من الطابع القاتم للقصيدة، إلا أن نجاة الطفلة ووهب النوارس الميتة أجنحتها يمثل بصيص أمل ضعيف، ولكنه يظل حاضرًا كإمكانية للمستقبل.
عبثية الوجود في ظل الموت: يمكن interpretation القصيدة أيضًا في سياق فلسفي حول عبثية الوجود في ظل سيطرة الموت واليأس.
ختاما قصيدة “سأحكي لكم حكاية تافهة” هي نصً شعريً عميقً يحمل فائض المعنى، وقد نجح في تكثيف صورة مأساوية لوطن يعاني من الموت والضياع عبر لغة رمزية قوية وبنية شكلية مميزة. على الرغم من طغيان اليأس والعبثية، إلا أن الخاتمة تفتح نافذة صغيرة للأمل والتضحية، مما يجعل القصيدة أكثر تعقيدًا وإثارة للتفكير. إنها دعوة للتأمل في واقع مرير وإمكانية انبثاق الأمل حتى من قلب الموت.. الطفلة الرضيعة نجت من عمق الموت لتحمل بشارة الحياة.