أ. نصر سيوب: تأملات في قصة الكاتب والشاعر أحمد الخليلي بعنوان “شوق ومرهم وجرح أخضر”.

أ. نصر سيوب: تأملات في قصة الكاتب والشاعر أحمد الخليلي بعنوان “شوق ومرهم وجرح أخضر”.

 

 

أ. نصر سيوب
    “شَوقٌ ومَرْهَمٌ وجُرْحٌ أخضرُ” :

 فوق المُعتاد هما معاً، يعشقان الشوق للمُعتَّق، لخصوصية الملامح عند كل مُنبَسَط توحَّدَ، حتى النخاع يحتسيان عشقهما الواحد في اثنين، يتفرَّد، رائقةٌ كالسماء لهجتُه في باكورة منظومتِه الشعرية يردد عند رموش عَشِيَّتِه : ” مِصْرِيّتي في إيدك أمانَهْ… أصلها منّي ومنّك اِبتدت أول سؤال عَ اللّي قالوا مصر عاشقها الزمان  جات في هواه من مبتداه لمنتهاه “، يردد منظومتَه، تدُقُّ العشيَّةُ خيمتَها في سعة اللا محدود في لون اللاشيء، تنادي السُّمّارَ على مختلف أهوائهم، يتوَحّد الحميمان ولقاؤهما العفوي المفعم بالعبق،  تمرُّ  مُزنة تهطل أياماً زخّات زخّات، يتفرّد، يحتضن المذياعَ  فالتلفازَ يغمره بالرغوة، يضغط زر المذياع، أغاني وطنية بشكل مكثف،  – قِطَعٌ لأهم الأنباء: السيد الرئيس يعطي إشارة البدء لتدفق مياه النيل إلى سيناء، وتقريرٌ عن موقع العمل في توشكى، وفي فترة المساء يذاع برنامج خاص عن أهمية إنجازات العصر – ، يطير فرحا ، يغتمّ : (دي أوضاع تعقّد النمّلة، نفسنا نفرح مش قادرين متحيّرين الفكرة الواحدة بفكرين الكُل سايب سكّته، الكلمة هربانة والصدور معظمها خربانة، الشارع مليان ودان وعنين، الجاي بيقول للرايح على شطنا شرقا حيقوم زلزال، أنا شفت بعيني أكتر م البيبسي الخمرا والرجال عريانة والبنانيت سكرانة ؟!) يلقي المذياع، يكتب على جدارٍ وداعاً لرفيق عمره ويرحل، هناك في قلب العراقة التليدة يقف، الآخر أمامها ملفتةً كُل الحواس أمومتها وهي تحتضن أزهار (الشَّمّام) كالكتاكيت ذات الشعر الأصفر، يتساءل في عجب لماذا زهرة الشمام لا يتحدث عنها التاريخ لماذا لا يحسبها  الناس مع الأزهار ؟ ما وجه الفرق بين اللوتس والشمام ؟! ليرتاحَ يتّهم الأذواقَ، تأخذه المُخضّرة بأوراقها وأكياس بذورها المعروفة (بالطرطاق) بأفراح القمري والرتم العصفوريّ المغسول في ذاك المزج الأغصانيّ المجدول، يُحدّد من بين الأشجار هويتها هي اللّبخة عنوان خصوبة تُربتنا، تؤكد أنّ لجدّي منحىً موصولاً وتشهد أنّ رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم شرقي غربي يُمناه ويسراه وأنّ الرسل جميعاً محدودون، تبعثر رائحة الشمام لا تنتظر مقابل، والولد الأحمق يضربها بالمنجل يخرقها بالمسمار وبالمنشار يسمع صوتا ينهره – اُسكت يا حمار! – ، لهاتيك الشجرة حدّان ، شأنك أو العار : يفيق من شروده رويدا يتهلّل وجههُ للشمام وللعصافير، يُقبّلها ويخطو نحو الكثافة والضباب …. ها هي ملامحُك يا حبيبتى محفورة على لحمي باتساع الأفق وشوق الذي رحل ولا أدري غير أنه يملؤني اشتياقه بطعم الجُرح عندما يسكت عنه الألم، والذي يفصلنا شاسع لا يندمل كبحر شاطئيه جرح باتّساعي يتكاثف الضباب أفقدُ بعضاً من قُدراتي كل شيء هنا يحضُّ على الرذيلة، الكُرةُ تلتهب، كل شيء صارخ ومشتعل، دوامة مسعورة مجنونةٌ مجنونة، يرزحُ في بحران من أمره كالعهن والعاصفة والشوق والتيه ! .. تغرفهُ من نوباته من ذاكرته من كُرته الملتهبة صفعة أهدته النوم، ثم حمله وصار به نحو عشقه، قفز به جدولاً قديما فاستيقظ، فسأله : من ذا يحملُني ؟ أنزله عند غابة من أشجار اللّبخ والسَّنط وساقية قديمة، سار معه وهو يُغنّي في تهجُّد بُكائيّ (زي الأمارة كان القمر والليل كما العاشق صلاة النبي وقت السحر)  يقبض على  يده طوال المشوار،  يأتنسان بوشوشة السعف المتناثر على سكة المشوار الطويل، يتمتم، أشواك السَّنط تُذكّرنا بالشّيب، أشتاق لشكشكة الأشواك لاجتباب العشب الأخضر، للتمرّغ في النّدى، لوجع القدمين عندما يتّخمان بالبَرَد، يقبضُ على يده حتّى فوق العشق الكفّ والكفّ صارا فالكفّان حنايا يوقدان إلى الدفء نارا، تؤنسهما، يتحدد زمن الاثنين : يسأله الأديب : أَتذكر البداية ؟ فيجيب القرويّ البسيط في لوعة : (أَيْوَه أذكر، كام بيت وحفنة طيبين سهرتهُم لحدّ العِشا متْبشبشَه بالخير متّمسكين بالطين وبالقميص الأبيض وبالشباب الزّين زادهم لبن بقرة، وجاموسة، وغلّة الجِلّبان الأخضر، وفرشِتهم فـ غيط الدوم، والخيمة والجامع، وحيرة حيرة، مَيّة النيل ما تكفي الشقوق الكتيرة) ثم سَعَل حتى انسدل طرف عمامته، سأله الأديب : كم كان عمرك آنذاك ؟ قال القروي: (قبل ما آجي بتسعين سنة، سأله الأديب وكم عمرك الآن ؟ قال القروي (تلاتين ونصها التاني بتلتمية !!!!)، ضحك الأديب فرمقه القروي قائلا : (بتضحك! أنا أزعل قوي من اللي أحكيلُو ويضحك) قال الأديب : إذاً يرضيك البكاء ! فسأله القروي : وكم عمرك أنت ؟ فأجاب : عشرون عاما، فقال القروي : (عمر البكا من عمرك)، جلسا غير متفقين، أخرج القروي كيساً من جلبابه به (مدغة) وطفق يملأ فمه حتى برز نتوءٌ تحت شفته السُفلى وأخرج حجرا مِلحيّا من جيبه وأخذ يقضمه ويدُسُّه في لفافة المدغة بفمه ثم بصق على الأرض في لذّة واسترخى قليلا، سأله الأديب عمّا تفعله المدغة، فأجاب : (معرفش المدغة بتعمل إيه ؟)  ثم ردّد مَوّالاً معروفا بين ( المُدغيّة ) ( اُتريكي يا مدغة تردّي الراس وليكي عطرون حُر زاقي، لقدّك مطبّق ولا قراص، ولا فطير عليه التساقي) سأله في انفراجته النادرة : ما وجه الاختلاف في نهج ما وجدت وما تجد في يومك وأمسك ؟ فلفظ ما بفمه وقال : (إمبارح زي الأمارة كان القمر والليل كما العاشق وقت السحر، ودلوقتي كما البيضة صار القمر والليل زي العروسة فـ لون الخَجل) ثم بكى ملء خُفّيه. الأديب مُداوراً : أنا لا أفهمك، أفصح ! فردَّ : (من قدّ عمرك مرتين خيّمت كما الخيمة طيور زرقا وعجفانَهْ وعفقانَهْ من ساعتها من الرجْلين، كما البيضة صار القمر والليل زي العروسة من غير خجل، راحوا الطيبين وراحت معاهم الشوفَهْ من الغربال، ونشف الزيت على الصاج الحزين، وفاح النتن والخمرانين ثملين تبتين، غيّمت، رعدت، مطّرت بلبطتنا طين، كله صبح متعاص كله متغيّر ومتبدّل، نخرت قلوبنا نخرت فى رؤوسنا، عشّشت فيها شوّمت، يا للي كتب، ياللي قرا كوّموا أكوام التّرى فوق العتب والحيط متجيش يا ليل، قالت لنا كبارنا، خلّو الولاد عَ السبيل بالنبلة والمقلاع يهشّوا الطير، بشويش يا ليل، كام النهاردة الكيل قالت لنا الحُرّاس إيش تكون جحشتك مع اللي يركب خيل؟ الناس داست فوق الشَرَف والعُرْف، داست على خدود الحواجز، على شعور القصايد، وعَ السنين وعَ الأسابيع كسّرتها بقت أيام دهستها بقت دقايق في باط الريح، الريح اللي ناعس فوق شواشي الجبل، فوق النخيل، بكام النهاردَهْ الكيل، صرخ النخيل، وين الخجل  لمّا العروسة تميل ؟)  ثم يشهق شهقة كزج خرِبةِ جابيةٍ، تشنَّج، فاحتنضه كانهمار السّيل بكى.
                *****************

ــ مقدمة :
في تربة الذاكرة الخصبة، تنبت حكايات الروح وتتشابك فيها مشاعر الشوق والأمل والألم.. قصة “شوقٌ ومَرْهمٌ وجُرحٌ أخضرُ” للمبدع أحمد الخليلي هي رحلة أدبية عميقة في هذه التربة، حيث تتجلى ثنائية الوجدان الإنساني بين حنين الماضي ومحاولات التداوي من جراح الحاضر، مع بصيص أمل أخضر يلوح في الأفق.
كما أن القصة تُعتبر لوحة فنية معقدة، تتداخل فيها عناصر الواقعية والشعرية، وتستكشف عمق التجربة الإنسانية في مواجهة التغيير والتحديات. فهي تتجاوز كونها مجرد سرد لأحداث، بل هي رحلة داخلية عميقة في أعماق النفس البشرية، وتعكس هموم المجتمع وتطلعاته.

ــ في أحضان القصة :
1 ــ دراسة العنوان :
العنوان عبارة عن خبر ومعطوفين ونعت، فشوقٌ: خبر مرفوع لمبتدإ محذوف تقديره (هذا). و “ومَرهمٌ” : الواو حرف عطف، و(مرهم) معطوف على (شوق). و “وجرح أخضر” : الواو : حرف عطف، و(جرح) معطوف على (شوق)، و(أخضر) نعت تابع لمنعوته (جرح) في الرفع.
ومن الناحية اللغوية والدلالية فشوقٌ مصدر “شاقَ”، وهو نزوعُ النَّفْس إِلى الشيء، أو تَعَلُّقها به.. قال المتنبي : “أُغالِبُ فيكَ الشّوْقَ وَالشوْقُ أغلَبُ وَأعجبُ من ذا الهجرِ وَالوَصْلُ أعجبُ”
والشوق يعكس الحنين إلى الماضي، أو إلى الحب الضائع، وإلى البساطة والنقاء، وإلى علاقة الإنسان بالأرض.
وقد يكون تعبيرا عن التوق إلى الهوية أو الاستقرار في ظل التغيرات الاجتماعية.
و”مَرهمٌ” جمعه مَراهِمُ، وهو مُركّب دُهنيّ علاجيّ لَيِّنٌ مختلف العناصر والألوان، تُدْهَن به الجُروحُ والقروحُ، أو يُدلك به الجلدُ، أو تُكْحَلُ به العَيْنُ..
قال أبو تمام :
   “ومَرْهَمٌ من جراحٍ يُدَاوَى
   إذا ما العدوُّ قد جاءَ بالآلامِ”
والمَرهم يرمز إلى الأمل والشفاء، وإلى القدرة على تجاوز الألم والمعاناة، وقد يشير إلى حلول سطحية لا تُجدي مع جروح عميقة.
و”جُرحٌ” جمعه : جُرُوحٌ، وجِرَاحٌ؛ وهو الشَّقّ في البدن.. قالت الشاعرة ولادة بنت المستكفي :
   “جرح بجرحٍ فاِجعلوا ذا بذا
   فما الّذي أوجبَ جرح الصدود”
ونعْت الكاتب “الجرح” ب”أخضر” رمز للتجدد والحياة، ولكنه يدل على حداثة الجرح وديمومته، مما يوحي بألم مستمرٍّ لم يندمل، ربما مرتبط بالهوية المصرية أو الذات الإنسانية في مواجهة التحولات.
فالعنوان يحمل في طياته مفاتيح الدخول إلى عالم القصة، فهو يشي بعالم مليء بالعواطف المتضاربة والمتناقضة، حيث الشوق يوقظ الذكريات، والمرهم يسعى لترميم ما أثقلته الأيام، بينما يظل الجرح أخضر، نابضاً بالحياة والأثر والألم.

2 ــ الأحداث :
تتميز القصة ببنيتها غير الخطية وتداخل الأزمنة والأمكنة والشخصيات، مما يجعل تلخيص أحداثها بشكل تقليدي صعباً.. فالقصة تبدأ بوصف علاقة وثيقة بين شخصين “هما معا” يشتركان في عشق عميق للماضي والأصيل “الشوق للمُعتَّق”. لينتقل المشهد إلى شخص يحتضن المذياع والتلفاز، متأثرا بالأغاني الوطنية والأخبار الرسمية حول إنجازات الدولة (تدفق مياه النيل، مشروع توشكى)، يتبع ذلك مونولوج داخلي يعبر عن اغتراب ومرارة تجاه الأوضاع الاجتماعية “دي أوضاع تعقّد النمّلة”، بتوجيه انتقادات للفساد والانحلال الأخلاقي في المجتمع. بعدها يكتب الشخص “وداعا لرفيق عمره” على جدار ويرحل، مما يشير إلى فقد أو نهاية علاقة مهمة. وينتقل المشهد إلى مكان تقليدي حيث يرى الراوي امرأة تحتضن أزهار الشمام، يتأمل الراوي جمال هذه الزهرة وتجاهل التاريخ لها، ويقارنها باللوتس. فيتفاعل الراوي مع عناصر طبيعية أخرى مثل “المُخضّرة” وأشجار اللبخ، ويشير إلى ارتباطه بالتراث “لجدّي منحىً موصولاً”. فيظهر ولد يعبث بزهرة الشمام، مما يثير غضباً “اُسكت يا حمار!”. ليعود التركيز على الشوق والحنين إلى حبيبة غائبة، مع الإشارة إلى أثر هذا الشوق كجرح دائم. بعدها يعبر الراوي عن شعوره بالاغتراب والضياع في عالم “يحضُّ على الرذيلة”. فيمر الراوي بنوبة من الاضطراب “يرزحُ في بُحران من أمره” تنتهي بصفعة أهدته النوم. ليتم حمله في رحلة رمزية عبر جدول قديم، ويستيقظ ليجد نفسه أمام غابة وساقية، برفقة شخص آخر. يتأمل الشخصان في أشواك السَّنط التي تذكر بالشيب، ويعبر أحدهما عن شوقه للماضي البسيط. ليظهر أن الراوي شخص من الريف “القروي البسيط”، والشخص الثاني المثقف “الأديب”. فيستحضر القروي ذكريات الماضي الريفي البسيط وقيمه. ويتضح اختلاف وجهات النظر حول مفهوم الزمن وعمر الإنسان بينهما.
فيظهر القروي وهو يتعاطى “المدغة” ويغني موالا شعبيا مرتبطا بها، مما يسلط الضوء على جوانب من الثقافة الشعبية، ومعبرا عن رؤيته للتغيرات الكبيرة بين جمال وصفاء الماضي وقسوة وظلامة الحاضر، مستخدما صورا شعرية قوية. وينتهي المشهد بالقروي وهو يبكي بحرقة، معبرا عن حزنه العميق على فقدان الماضي وقيمه.

3 ــ الشخصيات :
ــ الراوي (المثقف الأديب) : الشخصية الرئيسية وهي  شخصية مثقفة تتفاعل مع شخصية أخرى بسيطة (القروي)، يعاني من اغتراب ومرارة تجاه الأوضاع الاجتماعية والسياسية (“دي أوضاع تعقّد النمّلة”)، ويبحث عن الأصالة والجمال في الماضي وفي الطبيعة.
ــ القروي البسيط : يمثل الأصالة والارتباط بالطين والجذور، تتميز لغته بالبساطة والعفوية، لكنها تحمل حكمة عميقة ورؤية ناقدة للتحولات التي طرأت على المجتمع، ويعبر عن حنين جارف للماضي البسيط والقيم الأصيلة.
ــ الحبيبة : شخصية غائبة حاضرة في وجدان الراوي، يصف ملامحها المحفورة في لحمه، وربما تمثل الحب النقي أو الماضي الجميل الذي فقده.
ــ رفيق العمر الراحل : شخصية يكتب لها الراوي وداعا على الجدار، مما يشير إلى فقد أو نهاية علاقة مهمة.
ــ الشابة التي تحتضن أزهار الشمام : رمز للبراءة والجمال الطبيعي الذي يتجاهله التاريخ.
الولد الأحمق : يمثل العبث والتخريب للطبيعة والجمال العفوي.

4 ــ الزمان والمكان  :
١ ــ الزمان : تتداخل الأزمنة في القصة بذكريات تثير المقارنات، حيث تجمع بين الماضي(الذي يُصوَّر كعصرٍ نقِيٍّ بسيطٍ، مرتبط بالزراعة وتراث الريف) والحاضر(زمن الحداثة المليء بالفساد والاغتراب).

٢ ــ المكان : تتنوع الأمكنة بين المدينة (مع الإشارات إلى التلفاز والأخبار) والقرية (مع ذكر اللبخ والسَّنط والساقية وحقول الدوم). هذا التنقل المكاني يعكس ربما التناقض أو الازدواجية في حياة الشخصية أو في رؤيتها للعالم.

5 ــ اللغة :
تتميز لغة القصة بالبساطة والعمق في نفس الوقت، كما تتميز  بتنوع لغوي يعكس ثنائية الهُوية والصراع بين التراث والحداثة، وذلك من خلال استعمال الفصحى في السرد الرئيسي والأجزاء الوصفية، وتتميز بشاعرية عالية. وكذا استخدام العامية المصرية في الحوار والزجل لإضفاء الواقعية وتأكيد الانتماء إلى الثقافة الشعبية. وهذا التزاوج بين الفصحى والعامية يُظهر التفاوت الطبقي والثقافي بين الأديب (الفصحى) والقروي (العامية). وهذا التناوب بين الفصحى والعامية يثري النص ويعكس التنوع الثقافي والاجتماعي.
كما أن لغة القصة تتميز بالشاعرية والتكثيف والإيحاء، باستخدام الصور البلاغية والاستعارات التي تعبر عن المشاعر والأفكار بشكل غير مباشر مثل : (يعشقان الشوق للمُعتَّق ــ تدُقُّ العشيَّةُ خيمتَها في سعة اللا محدود). وهذه الشاعرية الطافحة في القصة بسبب طغيان الشخصية الشعرية للكاتب على شخصيته القصصية باعتبار الكاتب أحمد الخليلي شاعراً متميزاً.

6 ــ أساليب السرد :
اعتمد الكاتب على منظور الرؤية من الخلف باستخدام ضمير الغائب أثناء سرد الأحداث مما يتيح للقصة بُعْداً موضوعيّاً، ويمنح القارئ إحساسا بالتقارب مع الشخصيات، ويساعده على فهم مشاعرها وأفكارها بشكل أفضل. كما أن السرد في القصة ينتقل بسلاسة بين الحاضر والماضي عبر تداعي الأفكار والذكريات، مما يعكس طبيعة الذاكرة وارتباطاتها غير الخطية، مع استخدام الوصف المكثف لتصوير المشاعر المتدفقة والأحاسيس المتناقضة. بالإضافة إلى المزاوجة بين الحوار الداخلي (المونولوج) الذي يعبر عن مشاعر وأفكار الراوي والقروي، والحوار الخارجي بين الأديب والقروي الذي يكشف عن وجهتي نظر مختلفتين تجاه الماضي والحاضر، ويثري المعنى العام للقصة.

7 ــ الرمزية :
كما سبق الذكر فالكاتب أحمد الخليلي   شاعر متمكن، أشعاره ملأى بالرموز، وبطغيان شخصية الشاعر على القاص جاءت القصة مليئة بالرموز التي تحمل دلالات عميقة، من بينها :
ــ أزهار الشمام : تمثل الجمال العفوي والبسيط المُهمَل الذي لا يلتفت إليه التاريخ أو المجتمع، قد ترمز إلى الأشياء الأصيلة التي يتم تجاهلها. يُقابلها أزهار اللوتس كرمزٍ تاريخيّ، وهذا التناقض ينتقد انتقائية الذاكرة الجماعية.
ــ اللبخ والسَّنط : يمثلان الطبيعة القوية والمتجذرة، وربما يشيران إلى الأصالة والصبر. وأشواك السَّنط البيضاء ترمز للشيب والزمن.
ــ المذياع والتلفاز : يمثلان وسائل الإعلام الرسمية التي تُروِّج لإنجازات الدولة (برنامج خاص عن أهمية إنجازات العصر)، لكن الشخصية ترفضها (يلقي المذياع) كشكل من أشكال الهروب من الواقع المزيف.
ــ المدغة : قد ترمز إلى العادات والتقاليد الشعبية البسيطة التي تحمل في طياتها حكمة وعزاء.
ــ القمر والليل : يتغير تصويرهما بين الماضي والحاضر، مما يعكس التحولات في الرؤية والشعور بالعالم.
ــ الليل والنهار : يمثل الليل الماضي والحنين، بينما يمثل النهار الحاضر والتحديات.
ــ الغربال : رمز للتمييز الأخلاقي والقيمي، باعتباره الأداة المستعملة لغربلة الأفعال والأقوال، وفصل الصحيح والمحمود عن الخاطئ والمذموم. فعبارة “راحت الشوفه من الغربال” بذلك تعني فقدان القدرة على التمييز، فلم يعد الناس قادرون على التمييز بوضوح بين الصواب والخطإ، الخير والشر، الجميل والقبيح. وبالتالي فهي تعبير بالغ الأسى عن حالة الانحدار القيمي والأخلاقي التي يراها القروي في الحاضر مقارنة بالماضي الذي يحن إليه. فهي صورة مؤثرة لفقدان البوصلة الأخلاقية والجمالية التي كانت توجه المجتمع في الماضي.
ــ الطيور الزرقا : دلالة على الاحتلال، واللون الأزرق قد يحمل دلالات معينة مرتبطة بطبيعة الاحتلال مثل السيطرة والسطوة، أو بجنسيته باعتبار الأوربيين المحتلين عيونهم زرقاء فيكون الكاتب استعان بهذه الجزئية وإضفائها على الكل، أو لون أزياء قواته.
ــ من قد عمرك مرتين : إشارة إلى زمن الاحتلال، بحيث خيمت خيمة الظلام على الوطن بجور المحتل الغاصب وانفلات عقد المبادئ والقيم، لتحل محلها ثقافة التغريب وطمس الهوية العربية للنَّيل من المعتقد الجمعي.
ــ البيضة : ترمز إلى الهشاشة والضعف أو ربما إلى بداية شيء جديد فاقد للحياء (من غير خجل).
ــ الصاج والزيت : قد يرمزان إلى فقدان النقاء والصفاء (نشف الزيت على الصاج الحزين).
ــ الماء : يرمز إلى الحياة والنقاء، وهو يمثل أيضا الماضي الجميل الذي كان فيه الماء وفيراً.
ــ الطين : يمثل الأرض والجذور والأصالة.
ــ القميص الأبيض : رمز للبساطة والنقاء في الماضي، مقابل (الخمرا والرجال عريانة) في الحاضر.

8 ــ الرسائل :
تسعى القصة إلى إيصال مجموعة من الرسائل أهمها؛ أهمية الحفاظ على الهوية والتراث، وعلى ضرورة التوازن بين التطور والتقاليد. كما تدعو إلى تذكّر وتقدير الماضي الأصيل وقيمه، وتقدم نقداً ضمنيّاً للتحولات الاجتماعية والثقافية، التي قد تؤدي إلى فقدان الأصالة. كما تدعو إلى أهمية الارتباط بالطبيعة والجمال البسيط، والتأكيد على قوة الذاكرة وتأثيرها على فهمنا للحاضر. بالإضافة إلى إثارة تساؤلات حول معنى التقدم والتطور.

ــ خاتمة :
قصة “شوقٌ ومَرْهَمٌ وجُرْحٌ أخضرُ” تُعتبر نصّاً أدبيّاً عميقاً ومثيراً للتأمل، تُقدّم نسيجاً معقداً من الرموز والثيمات التي تعكس أزمة الهوية المصرية في ظل التحديات الحديثة.
وتتميز بلغتها الشعرية وأسلوبها المتفرد في مزج الأزمنة والأمكنة، والرمزية المكثفة، وهذه السمة تميز بها المبدع أحمد الخليلي في خلق نموذج متفرد في كتابة القصة القصيرة لم يسبقه إليه أحد. وقد نجح الكاتب في رسم شخصيات معبرة وطرح قضايا إنسانية واجتماعية هامة، والرمزية المكثفة تثري النص وتفتح آفاقاً واسعة للتأويل. قد يجد بعض القراء صعوبة في تتبع التداعي الحر للذكريات والرمزية العالية، لكن هذا يمثل جزءاً من جمالية النص وعمقه وقوته التي تكمن في شاعريّة اللغة وقدرتها على تجسيد الوجدان الجمعي.