د. جمال الحمصي: التحدي الأكبر في العالم العربي اليوم: كيف يمكننا ترويض الذاتية البشرية وتعزيز النظام العام؟

د. جمال الحمصي: التحدي الأكبر في العالم العربي اليوم: كيف يمكننا ترويض الذاتية البشرية وتعزيز النظام العام؟

د. جمال الحمصي

اقترحت في مقالي الأخير “أين التميز في مراكز الدراسات العربية والإسلامية؟” تأسيس برامج ووحدات إدارية مستقلة ومؤهلة داخل أبرز مراكز الفكر العربية والإسلامية هدفها المساعدة في إنقاذ جلّ المجتمعات العربية من مؤشرات الهشاشة والتفكك والتهميش المتفاقم (أمثلة: معدلات الطلاق والبطالة والهجرة والجريمة والترهّل الإداري واللامبالاة الانتخابية) بسبب ضعف الحوكمة المجتمعية العامة وتداعيات الأزمات الدولية المتعاقبة منذ عام 2008 حتى وقتنا الراهن.
في هذا المقال المكمل، سيتم الاستعانة بمقاربة متعددة التخصصات الاجتماعية وبالذكاء الاصطناعي لإثبات اهمية الأخلاق المشتركة في ترويض الأنانية البشرية (“كلا إن الانسان ليطغى”، و “أحضرت الأنفس الشح”)، أو بتعبير آخر: لإنجاز النظام العام متعدد الأبعاد والتماسك الاجتماعي في الأجل الطويل.
فبدلاً من المناقشة المطولة لقضايا فرعية مثل الاخلاق الطبية وما شابه، على مراكز الفكر العربية والإسلامية أن تبدأ بالقضايا الاجتماعية الكبرى والتحديات الوجودية الأساسية.
البعض يعتقد ان التنازع والاختلاف سنة كونية متأصلة. ولكن كيف يمكننا ادارة هذا التنوع والاختلاف البشري المعقد؟ وما هي أفضل آلية لإدارة النزاع في المصالح في المجتمعات العربية بطريقة تضمن الأمن والتنمية، والبقاء والرخاء، والاستقرار والازدهار معاً، وبالحد الأدنى من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والتوترات السياسية؟
هذا ما يطلق عليه في علم الاجتماع بمشكلة “النظام الاجتماعي العام”. ويرتبط النظام العام ليس فقط بحماية البقاء أو الوضع الراهن، وإنما أيضاً بضمان التوافق والشرعية وبتحقيق وظائف تنموية معينة تتجاوز البقاء جثة هامدة أو توليد مجتمعٍ أبكمٍ.
وقد اختلف المفكرون الغربيون حول هذه المسألة. ويمكن للمرء ان يذكر عدداً محدوداً من المفكرين البارزين الذين حاولوا تحليل أسس النظام الاجتماعي وتفسير وجوده، وهم: (1) توماس هوبز (2) جون لوك (3) آدم سميث (4) جان جاك روسّو (5) اميل دوركايم و(6) تالكوت بارسونز. يضاف الى ذلك العلّامة المسلم ابن خلدون في نظريته حول رابطة التضامن المجتمعي والهوية المشتركة.
ويمكن تصنيف هؤلاء الى ثلاث فئات: فئة ترى ان المصدر الاساسي للنظام في المجتمعات هو القوة المادية او الاكراه أو التشريع الملزم، ويمثل هذه الفئة توماس هوبز. وفئة ثانية ترى ان مصدر النظام الاساسي هو العقلانية الفردية والمصلحة الذاتية المستنيرة والتنافس ويمثل هذه الفئة جون لوك وآدم سميث. الفئة الثالثة تعتقد ان السبب الرئيسي للنظام الاجتماعي المستدام وغير المكلف لا يمكن ان يكون سوى القيم والمعايير الاخلاقية والاجتماعية المشتركة و”الخير المشترك”. ويمثل هذه الفئة كل من ابن خلدون ودوركايم وبارسونز وروسّو.
علم الاجتماع لم يستطع حتى الان ان يحسم جواباً تجريبياً أو أن يحدد نظرياً أياً من التفسيرات البديلة السابقة للنظام الاجتماعي هو الأصح والأكثر موضوعية، الا ان علم الاقتصاد المعاصر – دُرّة العلوم الاجتماعية- استطاع ان يقدم الادلة المنطقية المتسقة والقوية على صحة التفسير الثالث في إطار النظام الاجتماعي الهجين.
فكل من علم اقتصاديات الرفاه (نظرية اخفاق السوق) وعلم اقتصاديات الاختيار الحكومي (نظرية اخفاق الحكومة) في علم الاقتصاد الحديث يؤكدان على وجود فشل مزدوج ومتأصل في كل من السوق الحرة (النظام الليبرالي) والتدخل الحكومي (النظام المركزي البحت).
فليست المصالح الذاتية المستنيرة ولا التنافس ولا القانون ولا التدخل الحكومي هو الضمان الشامل والأكيد لتحقيق النظام الاجتماعي العام، وما الآليات السابقة سوى عوامل ضرورية وأساسية لكنها ليست كافية بأي حال من الاحوال، خصوصاً في المجتمع المعاصر المعقد والتقني والمتنوع والكبير. وهذا يصل بنا الى استنتاج مفاده ان “القيم والأخلاق المشتركة” هي المصدر الأول والمفقود للنظام الاجتماعي العربي في الأجل الطويل.
ان أية محاولة للادعاء بأن السوق الحرة أو الدولة لوحدها كفيلة بتحقيق النظام العام سيضع ضغوطاً استراتيجية ومالية ووجودية مكلفة وغير قابلة للاستمرار على النظام العام. وما تغول “رأس المال” على السلطة والمجتمع والبيئة وتزايد عدم المساواة بين الفقير والغني في الرأسماليات المعاصرة -المترافق مع تراجع أخلاقيات الفرد والمجتمع- الا من مظاهر تضخيم السوق الحرة الى مستويات غير صحية في ظل الليبرالية الجديدة.
كذلك، فان تضخم حجم الدولة المعاصرة والارتفاع غير الصحي وغير المستدام في انفاقها العام وموازناتها ورقابتها المتصاعدة -المترافق مع تراجع أخلاقيات الفرد والمجتمع- الا من مظاهر الاصرار على التدخل الحكومي المتزايد، الفعلي أو الشكلي، كحل لمشكلات وتعقيدات المجتمع المعقد المعاصر، وهو اتجاه يستند الى فكرة الدولة المعصومة التي تستطيع دوما وأبداً ان تحدد ماهية “المصلحة العامة” للمجتمع وأن تنفذها.
وفي ضوء ما سبق، يمكن للمرء ان يتساءل: إذا فشلت كل من الأسواق والحكومات، ما هو البديل التنظيمي؟  إنها الأخلاق العامة.
ورغم قناعتي بصحة هذا الرأي، فقد تم الاستعانة بأبرز تطبيقات الذكاء الاصطناعي (شات جي بي تي وجروك وجيميني) وكانت الاجابة تميل بوضوح نحو القيم الأخلاقية المشتركة في إطار النظام الهجين، أي اعتماد القيم المشتركة كمكمل للسوق والدولة وليس بديل عنهما.
وقد يقول قائل، لكن المجتمعات الغربية “تعمل”، بطريقة أو بأخرى، دون أخلاق مشتركة عامة أو رؤية كونية غير علمانية. الاجابة هي:
أولاً: أنها لم تعد “تعمل” بكفاءة بعد الأزمات والأوبئة والتحديات الوجودية ومؤشر ذلك نزعة الشعوبية والقومية في العالم الغربي.
ثانياً: انها تمتلك مخزوناً من الإنجازات والموارد المتراكمة يمكن الاستعانة بها في ظروف الأزمات (مثال: موارد الاتحاد الأوروبي). وتحديداً، تمتلك الدول الغربية بعض المناعة بسبب خصوصية اقتصاداتها ومجتمعاتها السياسية المتمثلة في: (1) قوة وعراقة نظام السوق والمنافسة المدعومة بتشريعات المنافسة والابتكار العلمي و(2) قوة المساءلة الديمقراطية وحكم القانون الذي يروّض طغيان “التنين المركزي” ويُحسّن من فعاليته.  لكن هذين العاملين غائب في العالم العربي.
والخلاصة: هل كنت مبالغاً في مقترح تأسيس وحدات تحليلية لإنقاذ المجتمعات العربية من طغيان الأنانية في مختلف الأنشطة والقطاعات؟ وهل من الواجب توظيف وابتكار ترتيبات مؤسسية جامعة داخل البلدان العربية مثل: الاعتصام بحبل الله، والمؤاخاة، ودستور المدينة المنورة، ووضع الحجر الأسود في الكعبة.