أ.د. طالب أبو شرار: هل هو خليج عربي أم فارسي أم ما هو؟

أ.د. طالب أبو شرار
تماما كما يستخف الكبار بعقول الصغار فيسردون عليهم قصصا خيالية أو “يأخذونهم على قدر عقولهم” كما يقول المثل، بشرتنا وكالات الأنباء بنية الرئيس الأمريكي إطلاق اسم الخليج العربي من جانبه خلال زيارته المقبلة الى المنطقة. يبدو أن مستشاري الرئيس الأمريكي قد نصحوه بإعلان ذلك استرضاء للعرب “السذج”، وأشك في معرفته الشخصية بحساسية الموضوع عند الطرفين العربي والإيراني؟ ربما قالوا له: هي مجرد كلمات تطلقها ولن تكلفنا شيئا ولن يترتب عليها أمرٌ واقع يمس مصالحنا لكن حلفاءنا العرب سيبتهجون كثيرا وسيعتبرون تصريحك حدثا جللا وانتصارا لهم. هي نفس النظرة الغربية الفوقية التي يخصون بها كل العرب والمسلمين! فعلوها مراتٍ عديدة بل عديدة جدا في الماضي ولا أظنهم سيبدلونها في القريب المنظور إن لم نجبرهم على فعل ذلك.
في الماضي القريب، كانوا ينظرون الى شعوبٍ أخرى كالصينيين والهنود بنفس المنظار لكنهم تعلموا حديثا كيف يحترمونهم بل ويسترضونهم بعد أن صعدوا الى القمة رغما عن الغرب وبجهودهم وإبداعاتهم ومعاناتهم وعرقهم. للأسف، نحن لم نفعل شيئا من ذاك القبيل بل نجلس هادئين ومؤدبين ومطيعين متكئين على موقعنا الجغرافي المتميز أو على فوهات آبار النفط والغاز أو على ما قدمه أجدادنا من إرث إنساني وقدسية دينية أو تراثية. أبشركم من الآن أن إعلان ترامب، إن حدث، ستتلوه الأفراح والليالي الملاح والعطايا، أكرر والعطايا، وهي فقط التي نبز بها عطايا أجدادنا من خلفاء وملوك وأمراء. أتساءل الآن إن كانت تسمية المواقع الجغرافية تحمل في طياتها كل تلك الأهمية القانونية؟ إن كان الأمر كذلك، فلماذا قبلت الولايات المتحدة كل ذلك الزمن الطويل باستخدام اسم خليج المكسيك رغم أن ثلاث ولايات، تكساس والمسيسيبي وفلوريدا وهي ولايات من أهم ولاياتها، تطل على الخليج؟ لقد ظلت تلك التسمية قائمة بلا منازع الى أن أطلق ترمب قبل فترة قصيرة تصريحه المستنكر لتلك التسمية مطالبا باستبدالها باسم “خليج أمريكا”. هي إحدى شطحات ذلك الرئيس المثير للجدل عبر كل العالم. أتساءل أيضا: لماذا تقبل أسبانيا باسم مضيق جبل طارق رغم ما فيه من رمزية لقائد عربي مسلم هو بالنسبة لهم أحد الغزاة القلائل في تاريخهم الذي احتل جزءا من بلادهم واستمر ذلك الاحتلال منذ عام 732 حتى سقوط غرناطة في العام 1492. لماذا تقبل إيران باسمي خليج عمان وبحر العرب الذين تطل عليهما كل شواطئها؟ أيضا، لماذا تقبل باكستان باسم بحر العرب الذي يطل عليه شاطؤها؟
في الماضي، لم تنطوِ الأسماء الجغرافية على مثل تلك الحساسية التي نتعامل بها هذه الأيام. وبمراجعة السرديات الجغرافية التاريخية، فقد ظهرت ولأول مرة تسمية الخليج الفارسي أو خليج فارس في القرن السادس قبل الميلاد وهو عصر الإمبراطورية الفارسية الأخمينية. وفي القرن السابع الميلادي وبعد فتحهم بلاد فارس واعتناق كل سكانها للدين الإسلامي قَبِلَ العرب المسلمون باسم خليج فارس أو بحر فارس أو الخليج الفارسي بالرغم من أنهم كانوا من يُسيِر الأمورَ في تلك البلاد لكنهم لم يلتفتوا الى تلك التسمية ولم يتعاملوا معها بحساسية عرقية. في الواقع ورغم مرور قرون عديدة، لم تثر تلك التسمية حساسية عند العرب إذ استخدم كثيرٌ من مؤرخينا ومؤرخي المسلمين اسم خليج فارس. هنالك شواهد عديدة للراغبين في الرجوع اليها ومثالها خريطة عربية من القرن التاسع تشير الى بحر فارس وخرائط أخرى من القرن السادس عشر تستخدم عبارة خليج فارس. أشير أيضا الى ما ورد في كتاب ابن خرداذبة في القرن التاسع “المسالك والممالك” وكتاب المسعودي في القرن العاشر “مروج الذهب ومعادن الجوهر” وكتاب ابن حوقل في القرن العاشر أيضا “صورة الأرض” وأيضا في نفس القرن كتاب “البدء والتاريخ” للمطهر بن طاهر المقدسي كما ظهرت ذات التسمية في كتاب ياقوت الحموي”معجم البلدان” في القرن الثاني عشر/الثالث عشر. وبالمقابل، ورد أيضا اسم الخليج العربي في نصوص قديمة منها وصف المؤرخ الروماني بلينيوس الأصغر في القرن الأول الميلادي وما ورد في بعض النصوص الزرادشتية. لكن وحديثا، أخذت تسمية الخليج العربي زخما شعبيا في عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والتي تبناها بسبب خصومته مع شاه أيران، محمد رضا بهلوي، الذي كان حليفا وثيقا للولايات المتحدة الأمريكية ومناصرا للكيان الصهيوني ومفرطاً في عصبيتِه الفارسية. على أية حال، ربما كان أول من أطلق تلك التسمية العربية هو إميل البستاني في منتصف خمسينيات القرن الماضي. كان البستاني ضابطا في الجيش اللبناني واحيل الى التقاعد في العام 1970 برتبة عماد (جنرال) ثم توفي في العام 2002.
ما أريد قوله في نهاية هذه المقالة أن منطقة الخليج هي منطقة ذات إرث مشترك بين العرب والفرس. لا يستطيع أي من الطرفين إهمال حساسية الطرف الآخر للتسمية التي يراها منحازة إن كانت باسم هذا الطرف او ذاك. وللتدليل على ذلك ما حدث في العام 2009 قبيل بداية الدورة الثانية لألعاب التضامن الإسلامي والتي جرت في طهران. طبعت اللجنة المنظمة للألعاب اسم الخليج الفارسي على الميداليات ورفضت المطلب العربي بإسقاط كلمة الفارسي كحلٍ وسط. على إثر ذلك، رفض اللاعبون العرب المشاركة في فعاليات البطولة وغادروا إيران عائدين الى بلدانهم. وفي العام 2013، أعلن الاتحاد الإيراني لكرة القدم أنه سيقدم شكوى إلى الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا” ضد الإمارات، بعد قرار لجنة دوري المحترفين الإماراتية تغيير اسم الدوري المحلي (لاحظوا كلمة محلي) لكرة القدم من “دوري اتصالات” إلى “دوري الخليج العربي”. وفي العام 2016، تقدمت بعثتا السعودية والإمارات المشاركتان في دورة الألعاب Paralympic في البرازيل باحتجاج رسمي للجنة العليا المنظمة لدورة “ريو 2016” بسبب استخدام البعثة الإيرانية اسم “خليج فارس” على ملابسها إضافة الى صورة للعلم الإيراني مُظللاً أجزاءٍ من أراضي دولٍ خليجية. هذا غيض من فيض للاحتكاكات الناجمة عن تباين الموقفين العربي والإيراني، الأمر الذي يثير تساؤلا مشروعا: هل نسمح لترمب بصب الزيت على النار وبإشعال فتنة جديدة بين العرب والإيرانيين؟ في اعتقادي أن إهمال الإعلان الأمريكي، إن حدث، سيخفف كثيرا من غلواء المتشددين من الطرفين على أمل أن تنفرج العلاقات العربية الإيرانية في المستقبل وأن يصل الطرفان الى حلٍ مريحٍ نتجاوز فيه جميعا حساسيات الماضي. من المؤكد أن ذلك لن يحدث دون بناء جسور من الثقة والتعاون المثمر باتجاه مستقبل مشترك وحتمي وفي صالح كافة الفرقاء. آنذاك، سيحل الوئام وتسود الحكمة ويدرك الطرفان أن ما يجمعهم يتجاوز كثيرا ما يفرقهم وأن المستقبل أثمن كثيرا من الماضي وأن في اتحادهم قوة ومنفعة للجميع. أيضا آنذاك ستختفي حساسيات الماضي وستنفتح الصدور والعقول والأفئدة على بعضها وستسود الأفكار البناءة. في ذلك المستقبل، سنطلق جميعا اسما على الخليج يجسد تلك الروح وسيكون ذا دلالةٍ على كل ما سبق ومجسدا لتلك الأجواء كخليج الأخوَة أو خليج السلام أو خليج المسلمين أو ما شابه ذلك.
مفكر عربي