حسن محمد حسين حمدان: مفهوم الموت في الإسلام ورغبة الشهادة

حسن محمد حسين حمدان
الموت هو الحقيقة التي لا يمكن لأحدٍ أن ينكرها، فقد أنكر فئاممن الناس وجود الله تعالى -وهو حقيقة الحقائق- وأنكر المشركون البعث والجنة والنار وكثيراً من الحقائق القطعية التي لا شك فيها،أما الموت فلم ينكره أحد ولا يمكن لأحد إنكاره، فهي الحقيقة التيقهرت الجبابرة والطغاة، قال تعالى عن المشركين: ﴿وقالوا إِنْ هِيَإِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾، فقد اعترفوابالموت وأنكروا البعث والحساب.
الموت حقيقة ملموسة مدركة، وقد أكد القران الكريم هذه الحقيقةحيث قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَأُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَفَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ قال الحسنالبصري رحمه الله: “ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقينفيه من الموت”، فالموت حقيقة قطعية لا جدال فيها وسببه الوحيدانتهاء الأجل؛ (يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم) وما قيلعنه أسباب هو حالات وليست سببا للموت.
وفلسفة الموت كانت محل نظر عند الأمم والشعوب والدياناتوالمبادئ، وليس بحثي حول هذه الأمور، ولكني سأنطلق من زاويةالإسلام ونظرته كوننا مسلمين ونحمل المفهوم الصحيح لفكرة الموتوهي محل البحث.
بداية؛ مما لا شك فيه أن الإنسان -وكذلك الكون والحياة- مخلوقلله عز وجل، فهي محدودة وكل محدود مخلوق، والإسلام بعظمتهبيّن لنا علاقة الخالق بالوجود وعلاقة الوجود بما قبله وما بعدهفعلاقة الخالق بالوجود علاقة (خلق وأمر ونهي) فالله وحده هوالخالق وله الأمر والنهي، وعلاقة الوجود بما بعده علاقة (بعثوحساب)، فالإنسان خُلق من العدم لوظيفة محددة وهي عبادةالخالق العظيم، والعبادة هنا بمعني الطاعة المطلقة للخالق في كلأفعال الإنسان بعد الإيمان المطلق، وقد اقتضت حكمة الله أنيمكث الإنسان فترة من الزمن في الدنيا ليربط الوجود بما قبله(إيمان وعمل) ثم يموت لينتقل إلى مرحلة البعث والحساب وربطالوجود بما بعده البعث والحساب .
فالموت في نظر الإسلام انتقال من مرحلة زائلة إلى أبدية، وصفهاالقران بأنها الحيوان، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَالْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ الدائمة التي لا زوال لها ولاانقطاع ولا موت معها.
والموت ليس هو انتهاء أبدياً أو فناء بل انتهاء مرحلة -مرحلة مؤقتة- إلى مرحلة أخرى هي الثابتة والدائمة، ليحاسب الإنسان علىإيمانه وسلوكه في الحياة الدنيا، ثم يدركه الموت لينتقل من الدنياإلى رحاب الآخرة نعيمها وجحيمها في حياة أبدية.
هذا التصور الذي يملكه المسلمون هو التصور الصحيح قطعاً،وهو التصور الإيجابي الذي له أثره الجميل على الإنسان فيالحياة الدنيا، حيث يعيش الإنسان لغاية وهدف يجب عليهالتزامه، بخلاف تصور الموت أنه انتهاء وفناء، فهو تصور سلبيوخطير يجعل من فكرة الموت ذعراً وخطراً تقعده عن العمل وتحقيقالغاية والهدف، لأنه مفهوم يخالف فطرته حيث فطر الإنسان علىحب البقاء، وتجعل من مفاهيمه تخالف فطرته التي فطر عليهاوتكون شخصيته مضطربة وفوضوية.
لكن تصور الإسلام بأنه انتقال من حياة مؤقتة لحياة أزلية ذاتنعيم عظيم أو شقاء تجعل من سلوك الإنسان في الدنيا مسيراًبأوامر الله ونواهيه، لأننا ننظر للآخرة، فالسلوك منضبط بالحكمالشرعي، قال تعال: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَاتَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَاتَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾.
هذه نظرة الإسلام وفلسفته للحياة والموت، وهي فلسفة عظيمةوذات أثر وسلوك جميل راقٍ، لذا يطلب المسلم الشهادة لأنه فيحقيقة الأمر يطلب الحياة الباقية والأزلية (الانتقال من الحياةالدنيا) إلى الآخرة (الحياة الأبدية) من حياة زائلة إلى الحياةالدائمة، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْكَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ وهذا التصور منسجم مع فطرة الإنسان التيفطرت على حب البقاء، فالمسلم حين يطلب الشهادة إنما يطلبالبقاء الحقيقي أي ينتقل من الزوال إلى البقاء.
من هنا جاءت نظرة الإسلام للشهادة أنها حياة وأسمى أنواعالحياة قال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ﴾، وقال: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَقُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْيَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَالْمُؤْمِنِينَ﴾ لذا كانت الشهادة في الإسلام هي الحياة وسربهجتها، وهي سر الطموح والغايات والأهداف، وسر الحركةوالثبات، والالتزام بشرع الله بخلاف من يرى في الموت خسراناًوحسرة وندامة.
لقد نظر الإسلام إلى الشهادة في سبيل الله أنها أعلى مطالبالمسلم وقمة الانسجام بين المفاهيم والفطرة البشرية، فكيف لمسلمأن يخاف من الشهادة وهي أسمى أمانيه فهو يطلب الحياة الحقيقية، وكيف له أن يخشى من المعارك وهي مظنة الانتقال إلىالحياة الأبدية والنعيم ورضوان من الله أكبر.
من هنا لا نعجب من بطولات المسلمين في المعارك وفي الصفوفالأولى حيث الملاحم وشدة المعارك يوم تكشف الحرب عن ساقيها،فيتقدم المسلم طلباً وطمعاً في الشهادة. كيف لا وهي لقاء ربالعالمين في الحياة الحقيقية.
لقد كتب خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه فيما رواه ابن كثيرفي البداية والنهاية وغيرهما من المؤرخين (أن خالدا رضي اللهعنه كتب إلى ملك فارس: بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بنالوليد إلى ملوك فارس، فالحمد لله الذي حل نظامكم ووهن كيدكم،وفرق كلمتكم… فأسلموا وإلا فأدوا الجزية وإلا فقد جئتكم بقوميحبون الموت كما تحبون الحياة).
هذه العقيدة التي يخشاها الغرب والكفر والتي يبحث عنهالجنوده فتراه يضع لجيشه الإستراتيجيات والعقائد القتاليّة لكنهميدفعونهم إلى المعارك دفعاً وقهراً بخلاف المسلم الذي يحمل كلمنهم عقيدته القتاليّة فما أن يسمع صيحات ونداء الجهاد اللهأكبر، حتى يلبي النداء تاركاً خلفه حياة الزوال وما فيها منملذات ونعيم إلى حياة أبدية وصفها رب العالمين للمؤمنين وصفاًدقيقاً في كتابه العزيز.
فعندما نسمع خبراء عسكريين يتحدثون عن عجائب ومعجزات فيغزة، فعن أي عجائب يتحدثون وهم لا يعلمون حقيقة تلك العقيدةالقتاليّة؟! وعن أي بطولات وملاحم يخوضها المسلمون، وقد أدركالمسلم حقيقة وجوده وغايته منها؟ وقد آمن بالبعث والحسابرابطا الحياة الدنيا بما قبلها وما بعدها فيتقدم للنزال ولا ينظرخلفه؟
إنها عقيدة الإسلام التي توّلد المعجزات والبطولات فيما لا يدركهكافر قط، فقد كانت ولا زالت البطولات أشبه بالمعجزات فيفلسطين وغزة خاصة والشيشان والبوسنة وافغانستان والعراقوالجزائر وليبيا، فأمة الإسلام ليست كغيرها في الجهاد لشدةتعلق المسلمين به أصبح من مفاهيم الأعماق، روى البخاري عنعبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (شهدت من المقداد بنالأسود مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به: أتىالنبي ﷺ وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول كما قال قومموسى: (فاذهب أنت وربك فقاتلا)، ولكنا نقاتل عن يمينك وعنشمالك وبين يديك وخلفك، فرأيت النبي ﷺ أشرق وجهه وسره) ولن تغلب أمة الإسلام في ميادين الجهاد، وهذا ما يخشاه الغربفأخذ يضرب مفاهيم الجهاد ظناً منه أنه سيطفئ نوره ولكن هيهات هيهات.