نورالدين برحيلة: آفاق الفلسفة في عصر التفاهة.

نورالدين برحيلة: آفاق الفلسفة في عصر التفاهة.

 

 

نورالدين برحيلة

الفلسفة نور يرفض الظلام ..

تحية فلسفية نورانية، لكم محبي الفلسفة، وأنصار العقل السليم والمنطق القويم.. والحكمة التنويرية..

نعم الفلسفة نور يرفض الظلام، حتى عندما يطعنها  أعداء الداخل والأخطر حين العدو الداخلي من وزن  وقامة الفيلسوف هابرماس الذي صدع رؤوسنا بأهمية الأخلاق التواصلية والعيش المشترك  والقبول بالاختلاف لتحقيق الاندماج الاجتماعي، ثم نجده يشجع الصهاينة على الإبادة الجماعية في غزة بدعوى الدفاع عن النفس، وتبخر دفاعة المزيف عن الأنوار، وبخصوص  الجواب على السؤال: ”ما الأنوار؟“ يقول الفيلسوف الألماني كانط:

”التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذاتي، والقصور هو عجز الإنسان في استخدام عقله بنفسه دون مساعدة سواه“.

فشل الإنسان في استخدام عقله يعني خضوعه وتبعيته للغير.

* الفلسفة كي لا تنتصر المغالطات..

* يقول الفيلسوف الألماني هوركهايمر Horkheimer ”الفلسفة هي المحاولة الجادة لإدخال العقل في العالم“.. وهذا يعني حماية الفلسفة للبشر من الجنون.

* ما أكثر فظاعات الوجود الإنساني قبل الفلسفة، سيما في لحظات هيمنة الميثولوجيا،  والخرافات الأسطورية والمغالطات الوهمية، واستغلال الأشرار لمعظم الناس والتلاعب بحياتهم ومصيرهم،  وتنويمهم بأفكار خاطئة تسميها الفلسفة أفكارا جاهزة وأحكامادوغمائية مسبقة، مفعمة بالأكاذيب، والهدف تغليط البشر، ومنعهم من الاستخدام السليم لعقولهم، كي تسهل السيطرة عليهم، وتحويلهم إلى قطعان من العبيد. يختارون عبوديتهم بشغف ويفضلون أن يصبحوا كلابا وخرافا وحميرا..

* بالعقل يميز الإنسان بين الحقيقة والوهم، بين الصدق والكذب، بين الخير والشر، والفضيلة والرذيلة.

الفيلسوف سقراط وبداية الحكاية..

* وسط فوضى من المغالطات روج لها السفسطائيون، في دفاعهم المحموم عن المصلحة الفردية، كأفق مركزي للعيش، تنامت نزعة انتهازية بين المواطنين الأتينيين، وأصبح الكذب والخداع والتضليل أسلوب ونمط حياة.

* هذا النمط الوجودي المزيف يقوم على الاستغلال وصناعة الانحطاط، وبما أن الفيلسوف طبيب الحضارة، سيشرع الفيلسوف سقراط في تشخيص مختلف أمراض أتينا، ليصبح سقراط ضمير المجتمع الأتيني، بممارسته الفلسفية  الحريئة المتجولة، على اعتبار أن سقراط جعل من الفلسفة ممارسة في مختلف الفضاءات العمومية، وليس تنظيرا في الصالونات المكيفة والندوات المزيفة والمناظرات المأدلجة.

* سقراط يتجول بالفلسفة في المحاكم والأسواق والساحات العمومية يتحاور مع الأحراروالعبيد،  الأمراء والفقراء، العلماء والجهلاء الكبار والصغار.. لقد جسد مشروع الفلسفة للجميع.

* الدولة المريضة والحاجة إلى الخطابة..

كما سبقت الإشارة فإن الفيلسوف سقراط، سيحاول إرجاع النظام إلى الدولة المدينة أتينا، دولة تسمح للمواطنين الأحرار بالتعبير عن آرائهم ومساهمتهم في حل المشاكل السياسية والاجتماعية، بقوة الحجة لا حجة القوة، لكن الأشرار أينما حلوا بكونون عصابة لا دولة.

هكذا كانت الخطابة la Rhétorique مطلبا ضروريا يحتاجه الأتينيون كي يستطيعوا ممارسة حرية التعبير والتمكن من إقناع الغير بالحجة والدليل ودحض وهدم ورفض الرأي المغاير بالمطارحة لا المناطحة.

لعب السفسطائيون دور تعليم فن الخطابة ومهارة الكلام وبراعة القول مقابل أجور، بغية تأهيل أبناء الأثرياء والنافذين للتموقع في مجال المال والأعمال والسلطة وساهموا في ازدهار الظاهرة الترامبية القارونية الهجينة.

السفسطائيون وبلاغة التزوير..

* لم يهتم السفسطائيون بمشكلة الحقيقة وضرورة قول ”الصدق“ لأنهم لم يكونوا منشغلين بتربية المجتمع على الفضيلة، ولم تكن المعرفة بالنسبة إليهم طريقا للفضيلة والانسجام، وإنما طريقا للمصلحة والإفحام وإسكات الخصم. (الجدل)

* إفحام وإقناع الغير لتحقيق المكاسب الشخصية، ولو باستخدام الحجج الفاسدة، والمغالطات والأكاذيب، وهو ما يسمى بالسفسطات و بلاغة التزوير، حيث يستطيع التاجر الجشع تدليس معاملاته، والمحامي غير النزيه تبرئة المجرم الثري، والقاضي الفاسد تلفيق تهم خطيرة لمواطن خلوق صالح والزج به في غياهب السجن والاغتيال على غرار شهداء الأزمنة المعاصرة الشرفاء محمد مرسي ، إسماعيل هنية، يحيى السنوار، السيد حسن نصر الله والقائمة النورانية تشع نورا وضياء..

* النتيجة هي أزمة مفاهيم خاطئة تحولت إلى قناعات وتقاليد وعادات تهدد أتينا.

سقراط وأزمة المفاهيم..

* أمام الفوضى السفسطائية التي جعلت الحقيقة هي ما يراه الفرد، وهو ما أفضى إلى تهديد الحقيقة في بعديها المعرفي والأخلاقي، معرفيا الحقيقة أصبحت وجهة نظر فردية، فالمثلث كشكل هندسي سيفقد حقيقته المعرفية حيث سيصبح من وجهة نظر شخص جبلا، وآخر سيراه قطعة جبن وثالث هرما، أخلاقيا لا قيمة للصدق حيث سيصبح الكذب بالنسبة لمجرم يمثل أمام المحكة هو الصدق مادام سيحقق له مصلحة الإفلات من العقاب، وبالتالي أصبحت الحقيقة رهينة بالمصلحة الفردية فقط وهذا ما شاهدناه في مصافحة الترامبية الجولانية..

* هكذا سيشرع الفيلسوف سقراط في وضع الأفكار في مفاهيم موضوعية محددة، كمفهوم الحقيقة، مفهوم العدل، مفهوم، الشجاعة، اعتمادا على الحوار التوليدي la maïeutique الذي يعتمد على السؤال والمساءلة النقدية، وجعل المعرفة طريقة للفضيلة، من خلال معالجة أزمة المفاهيم التي أنتجتها الممارسة السفسطائية.

سقراط وفضح ديمقراطية الدجل..

* كان الفيلسوف سقراط من أشد المنتقدين للديمقراطية الأتينية، وهنا يجب طرح السؤال: – لماذا رفض سقراط نظام الحكم الديمقراطي؟

* لا بد للعودة هنا إلى محاورة الجمهورية للفيلسوف أفلاطون تلميذ سقراط الذي بدوره يتبنى نفس موقف أستاذه سقراط من النظام الديمقراطي، وقد يبدو هذا الموقف غريبا، لكن الفلسفة تعلمنا عدم التسرع في إصدار الأحكام. حسب أفلاطون نظام الحكم الديمقراطي يساوي في تحمل المسؤولية بين مختلف المواطنين، وقد يبدو هذا التصور إيجابيا يكرس للمساواة بين عموم المواطنين، لكن المساواة بين مختلف المواطنين في تحمل المسؤولية بناء على الاقتراع المباشر، قد يمنح مسؤولية خطيرة لمواطنين لا يمتلكون أية كفاءة لتدبير الشأن العام، مما يهدد الدولة بالانهيار، خصوصا إذا كان هؤلاء المواطنون يمتلكون فن الخطابة والقدرة على التأثير على البسطاء، سنكون أمام عصابة سياسية، بلغة الفيلسوف الفرنسي لابيوسي La Boétie

سقراط وحاجة الدولة العاقلة للفلسفة..

* كان سقراط يحمل مشروعا فلسفيا، هدفه جعل المجتمع يعيش وفق الفضيلة La Vertu وكان يعرف جيدا نقائص المجتمع الديمقراطي الأتيني، وأخطرها هيمنة الحس المشترك Doxa والرأي العام على الحياة الأتينية، بما تعنيه من سلطة العادات الخاطئة والأفكار المزيفة وسماح الديمقراطية للانتهازيين بالتموقع وامتلاك القرار، والنتيجة استحمار السذج والبسطاء وسقوطهم في فخ الأوهام والأمثلة في أنظمة الحكم العربية تتكرر بمتتالية هندسية..

* هذا الوضع هو الذي جعل المؤرخ وفيلسوف العلوم الفرنسي Alexandre Koyré يصف الوضع المزري الذي بلغته أتينا من هيمنة الفساد والخداع والتضليل، والذي انتشر في مفاصل الدولة من سلطة سياسية وعموم المواطنين، ورفضهم للنقد السقراطي، والتخلص منه بمحاكمته بتهم ملفقة وإعدامه، لم تكن أتينا دولة عاقلة حين فرطت في الفيلسوف، وهو ما سيمهد لانهيارها، وهذا معنى قول الفيلسوف جاك دريدا ”الديمقراطية التي تخسر الفلسفة هي ديمقراطية في خطر“.

مستقبل الفلسفة..

* تربية المواطنين على التفلسف وتعليمهم استخدام عقولهم لحل مختلف المشاكل، لا اللجوء إلى العنف والخداع والكذب.. هكذا تدرس الفلسفة للصغار في رياض الأطفال عبر أفكار بسيطة تمكنهم من استخدام عقولهم الصغيرة، للتمييز بين الحقيقة والوهم،  وأكبر رهانات الفلسفة محاربة الغباء،  باعتباره أخطر مظاهر  الغفلة والسذاجة، هكذا تحظى الفلسفة في المجتمع الغربي بأهمية كبيرة حيث تنتشر المقاهي الفلسفية والورشات الفلسفية، وفلسفة الفضاء العمومي في المنتزهات، وتقتحم الفلسفة السجون، لتقوم بتصحيح أفكار المجرمين الخاطئة، وهذا سبب إغلاق الكثير من السجون الغربية.. لأن مختلف  المشاكل البشرية تنطوي على جانب كبير من الغباء.

-الحاجة إلى الفلسفة في المغرب..

* ما أكثر الأعطاب التي يعاني منها مجتمعنا المغربي، بدءا من انتشار العنف، والخرافة، واحتقار الغير، وانتشار السلوك الانتهازي والأنانية…، ومختلف هذه السلوكات هي أفكار استوطنت رؤوس أصحابها، فالعنف هو فكرة في الرأس تتحول إلى سلوك في الحياة، وهو سلوك خاطئ، لأنه قد يفضي إلى نهاية أليمة غير متوقعة، فالشخص العنيف قد يلجأ إلى العنف فقط لزجر خصمه، لكن تلك اللكمة قد تنهي حياة إنسان، وهو ما سيلقي بهذا الشخص خلف القضبان، ولن ينفعه الندم، كما أن هذه طالجريمة ستخلق آلاما لا تنسى لأسرة القتيل والقاتل على حد سواء.. هذه صورة لجريمة صغيرة فما عسانا بالحروب والإبادات، وتجويع الشعوب، وهيمنة الدجل السياسي واستحمار الشعوب..

* هكذا تتجند الفلسفة لرفض العنف (إريك فايل) والدعوة إلى السلام الدائم (كانط).. ترفض الفلسفة الفردانية الأنانية وتدعو إلى الانخراط في القضايا الاجتماعية ورفض الاحتقار (أكسيل هونت).

* ترفض الفلسفة النزعة الفردانية الأنانية وتدعو إلى الانخراط في القضايا الاجتماعية (غوسدورف) أكثر من ذلك تحث على الغيرية بتعبير الفيلسوف كونت، بمعنى أن يكرس الإنسان حياته من أجل الغير الذين يدين لهم بحياته ومعارفه ومكتسباته من أسرة، وأجداد ومدرسين ومفكرين ومسؤولين جادين وعلماء ومصلحين..

* هذه بعض من القيم الكثيرة التي تؤكد أننا في أمس الحاجة إلى الفلسفة أكثر من الحاجة إلى الغذاء والهواء والماء.. فالإنسان يأكل ليعيش، ولا يعيش ليأكل.. يعيش الإنسان ليحقق كرامته كما يؤكد الفيلسوف كانط، والكرامة هي قيمة مطلقة تجعل من الإنسان غاية لا تُقوَّم بسِعر، وليس مجرد وسيلة صلاحيتها محدودة produit jetable، وهذا ما فضحته مدرسة فرانكفورت الفلسفية، من خلال كشف الوجه البشع للنظام الرأسمالي بثقافته التشييئية، حيث يتحول الإنسان إلى سلعة رخيصة.

لقد تخوف فيلسوف قرطبة ابن رشد الحفيد، من غروب الفلسفة في العالم الإسلامي، لكنه كان متفائلا من وجود عقول تنويرية تبشر بالفلسفة وتؤمن بالعقل.. لمواجهة قوى الظلام والتضليل والتزوير والتزييف.. سيما مع انتشار العنف، وهشاشة قيم الحوار، وتغوُّل القيم المادية، لا بد من مشروع فلسفي يروم أنسنة القيم، واستنبات المجتمع المدني، المؤمن بقيم العقل والاحترام المتبادل من خلال حماية الأفكار الفلسفية الإنسانية  بمحاصر فقدان المناعة الفكري المكتسب بتبخيس قوة الفكر التنويري واللامبالاة بخطورة الأفكار الزومبية.

* مستقبل الفلسفة سيكون مزهرا لكي تكون لحياة الإنسان معنى حقيقيا عبر كشف كل أضداد الحقيقة، وتمجيد الحياة وفضح كل القتلة المتسلسلين في مقدمتهم الصهاينة رمز فظاعة الشر  التي سكتت عنها حنا أرندت وزميلها هابرماس وكل الفلاسفة الذين اختاروا الصمت وانحازوا إلى السردية الشيطانية.
* ختاما مستقبل الفلسفة يكمن اليوم في التصدي للفكر الشيطاني المعاصر.
* كاتب عربي متخصص في الفلسفة وعلوم التربية.