إلى أي وجهة تسير ليبيا بين تناقضات الفوضى والتفاؤل؟

إلى أي وجهة تسير ليبيا بين تناقضات الفوضى والتفاؤل؟

 

 

حسين سالم مرجين

لا تزال الأحداث والحروب والصراعات المتشابكة والمعقدة تعصف بليبيا. ففي ليبيا ما يبكي وما يضحك، والأيام بينهما دول. هذا يعني أنه قد يحدث أن تضحك دون سبب، لكن الحقيقة أن هناك ألف سبب. وقد تبكي دون سبب، وفي الحقيقة، هناك أيضًا ألف سبب. مما يطرح سؤالًا ملحًا: إلى أين تتجه ليبيا؟ في خضم الكوارث التي تواجهها البلاد، يظل من الضروري تشخيص هذه الوقائع واستخلاص الدروس منها. لذا، يستدعي الأمر منا محاولة فك رموز وطلاسم هذا الغموض وكسر حواجز العتمة. سأبذل قصارى جهدي في هذه المقالة لمراجعة الوقائع والمشاهدات بموضوعية ودون تحيز.
إن فهم الأحداث من منظور وطني حقيقي يعكس تأثيرها على المجتمع هو أمر بالغ الأهمية، فهناك العديد من الأحداث المعقدة التي تحتاج إلى نقاش، لكن الوقت لم يحن بعد للحديث عنها جميعًا. إن مأساة ليبيا تتطلب من المسؤولين إدراك مخاطر تصرفاتهم وسلوكياتهم، فهم لديهم حب الحديث عن الوطن ولكن ليس حب خدمته.
برز خلال يومي 13 و14 مايو 2025 تحول مهم يفتح الطريق لمرحلة جديدة، حيث يمثل سقوط مرحلة وبروز أخرى ملؤها الترقب والقلق والتوتر.
بادئ ذي بدء، لست ميالًا إلى اتهام أي شخص بالعمالة أو الخيانة، ولكن يجب أن ندرك أن القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في ليبيا لم ولن تسمح بوجود أي متغيرات أو تحولات داخل ليبيا دون تنسيق أو تواصل أو موافقة منها. يُعد ذلك شرطًا ضروريًا لبروز أي متغير أو تحول على السطح الاجتماعي في ليبيا، خاصة إذا كانت بحجم الحرب الحاصلة في طرابلس. لذا، فإن التغييرات أو التحولات لم تعد وطنية بالدرجة الأولى.
وهنا أستشهد بمقالتي “إلى أين تتجه ليبيا 3” التي أقول فيها: يتوجب علينا إدراك أن معظم الوقائع والمتغيرات والتحولات الكبرى المرتبطة بأي حدث أو موقف يحدث في ليبيا لا يمكن فهمها بمعزل عن المصالح والحسابات الدولية، التي لا تعير اهتمامًا للمصالح الوطنية. إذا أمعنا النظر في المشاهدات والحقائق، ستتضح لنا سريعًا إجابات السؤال المطروح.

إن السنوات الخمس من عمر حكومة الوحدة الوطنية كانت كارثية على مختلف الأصعدة. ما يدعم هذه الوجهة هو مذكرات الإيقاف الصادرة عن مكتب النائب العام، التي شملت عددًا من وزراء ومسؤولي حكومة الوحدة الوطنية بسبب حالات الفساد والسرقة للمال العام.

تظل هذه الحكومة، مثل سابقاتها التي وصلت إلى العاصمة طرابلس، معتمدة على بعض الجماعات المسلحة المتواجدة في المدينة أومحيطها. جميع الحكومات السابقة فشلت في تأسيس مؤسسة عسكرية وشرطية موثوقة لضبط الأمن وتعزيز قوة مؤسسات الدولة. وهذا يعني ببساطة أن أي حكومة جديدة ستظل مرهونة بقاعدة الجماعات المسلحة، التي أصبحت تضمن بقاء واستمرار أي حكومة تصل إلى العاصمة.

لقد أدت الحروب الأهلية المتتالية في ليبيا، والتي لا تبقي ولا تذر، إلى تآكل مؤسسات الدولة المتهالكة والمنقسمة أصلًا. كما أن استمرار هذه الحروب أزاح مسألة بناء الدولة إلى الهوامش، في الوقت الذي شجع فيه أوهام بعض المدن والقبائل والشخصيات حول إمكانية التفرد بحكم ليبيا. ولست بحاجة إلى التذكير مرة أخرى بأن المجتمع الليبي لا يزال منقسمًا بين قبائل ومدن منتصرة وأخرى منهزمة، وهذا التقسيم المجتمعي أصبح متأصلًا حتى في توزيع الحقائب الوزارية.

هنا نسارع إلى القول إن القبائل والمدن المنتصرة لا تزال تتصرف من منطق الثأر، مما يؤدي إلى خلط المصالح القبلية المؤقتة بالمصالح الوطنية الاستراتيجية الدائمة. ومع استمرار هذا الخلط وسوء التقدير، بات 99% من مصير الوطن بيد أطراف خارجية.

وإذا أضفنا إلى كل ما سبق حقيقة أخرى، وهي أن السنوات الماضية شهدت بروز أشخاص مجهولين، يفتقرون إلى الخبرة اللازمة لتولي مهام رئاسة الحكومة، ولم يكن لديهم أي تاريخ سياسي يؤهلهم لذلك. حتى إن رئيس حكومة الوحدة الوطنية قد صرح بأن وزراء حكومته ليس لديهم أي خبرة أو دراية بشؤون إدارة الوزارات، وأنهم جاؤوا من الشارع. وهذا الأمر كلف الوطن والمواطن تكاليف باهظة لتأهيل وتدريب هؤلاء.

عندما تسلمت الحكومة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة في 2021، هبت رياح التغيير والوحدة الوطنية بعد انقسام دام حوالي ست سنوات. نشأ مناخ وطني مستعد لإعادة ترتيب البيت الليبي، لكن قيادات هذه الحكومة لم تتمكن من بناء قاعدة اجتماعية قوية أو توظيف رياح التغيير لصالح بناء مؤسسات الدولة، بالرغم من المليارات المصروفة، وهنا نشير مرة أخرى إلى الوقائع والسجلات الموجودة لدى النائب العام التي تبين فشل هذه الحكومة.

المشكلة في ليبيا تكمن في القيادة، التي لا تزال دون تغيير حتى في معطياتها الحالية والبديهية، مما يشكل تحديًا كبيرًا. يتطلب الأمر اكتساب مخيلة واسعة وتجربة كبيرة لإدراك هذه الأفكار الدقيقة. ومع استمرار فشل الحكومة في الغرب، برزت نتائج اللجنة الاستشارية المكلفة من قبل بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، التي اقترحت استحداث حكومة جديدة بدل الحكومة الحالية.

عندما تُدار الحكومة بعقلية المقاول، فإن هذا الأمر غاية في الأهمية، وهو أقرب للواقع المسكوت عنه، حيث يتوقف الرهان على استمرارها على فكرة أن لكل شخص ثمن. إن إعادة التقدير واستكشاف البدائل والتخطيط للمسؤولية كلها مرتبطة بهذه الفكرة، مما يعني أنه لا يوجد دور حقيقي للفكر والتفكير في إدارة الحكومة. وبالتالي، يعاني الوطن من افتقاد أي مشروع وطني واضح.

لقد قامت هذه الحكومة بعملية مقاولية أدت إلى اغتيال قائد أحد الجماعات المسلحة المهمة في طرابلس، حيث تم تنفيذ الاغتيال من أطراف حكومية وفي مقر رسمي. بعد هذا الحادث، لم تعد الحكومة كما كانت، مما يدل على أن البعض يتعاون مع قوى غير وطنية من أجل مصالحه الشخصية. كان على الحكومة أن تدرك أن كل فعل يقابل برد فعل مساوٍ له في القوة، ولكنه معكوس في الاتجاه.

خروج أهالي طرابلس يومي 13 و14 مايو في سوق الجمعة يُظهر بوضوح أنه لا طاعة لسلطة ما إلا بمقدار القبول الاختياري من الاغلبية بها، وإلا بمقدار نزولها هي عند مقتضي إرادتهم .

والآن، أستأذنكم في طرح سؤال مهم: أين هي مصلحة ليبيا من كل هذه الوقائع؟
بوجه عام، أجزم بأن الأوضاع الراهنة في ليبيا لن تتغير، ولن تشهد تطورًا لصالح الوطن، إلا إذا تم منح مساحة أوسع وأعمق لمسألة المصالحة الوطنية. ينبغي البدء بتقييم شامل للمراحل السابقة، ليس فقط الأربعة عشر الماضية، بل منذ تأسيس الدولة الليبية الحديثة في عام 1952. إخفاء الحقائق عن أي مرحلة من المراحل يعني تحويلها إلى أطياف أو أشباح. لذلك، نحن بحاجة إلى فتح حوار وطني يجيب على الأسئلة المعلقة، ويستعرض الوقائع والحقائق والوثائق، مما يساعدنا على استشعار الروابط الأخوية التي تجمعنا في مواجهة الأخطار الخارجية. وإلا، فإن الغد سيضيع في السراب، كما ضاع الأمس في الضباب.
علم الطب يقول إن قفل الجرح على العفن سيؤدي حتمًا إلى حمى تضرب الجسم، مما قد يستدعي البتر كحل نهائي. وهذا ما يمكن تفاديه من خلال استجلاء الوقائع والحقائق. ولعلني لا أجانب الصواب إذا قلت إن الشعب الليبي لا يعرف الكثير عن تاريخه الحديث، ولا يعرف ما جرى لموارده المالية والاقتصادية والنفطية، ولا يدرك أين هو، وإلى أين يُساق.
على الرغم من الفوضى والانقسام، فإن ليبيا تملك فعليًا كل موارد القوة. يجب أن ندرك أن كل أزمة ستظل قائمة طالما استمرت الأسباب التي أدت إليها. لذا، من الضروري أن نحدد كليبيين ماذا نريد، وما هي خطة الوصول إلى أهدافنا. يتطلب ذلك الصبر والتفكر والعمق في البحث، مع التأكيد على أن الحلول لن تأتي في قوالب جاهزة من الخارج، بل يجب أن تشمل جميع أفراد المجتمع في حوار وطني شامل لا يستثني أحدًا.
إن بذور الحل تكمن في تبني رؤية جديدة للأزمة في ليبيا. يجب أن ندرك أن تجاوز هذه المرحلة، وما يتضمنه من ازدواجية أو ثنائية في أوضاع البلاد، ليس بالأمر السهل، ولا يمكن أن يتحقق دون حدوث مشاكل أو احتكاكات بين القبائل والمدن المنتصرة.
حيث يتوجب علينا أولاً كشف وتشخيص الأحداث والأزمات، ثم النظر في أولويات العلاج تباعًا، والسعي الحثيث نحو توحيد الوطن. يجب أن ندرك أيضًا أن قرار حل الأزمة الليبية لم يعد قرارًا ليبيًا بحتًا، بل أصبح مرتبطًا بمصالح دول أخرى. لذا، من الضروري الإسراع في تشكيل حكومة وطنية جامعة لكل الليبيين، وإعداد خارطة طريق بمساعدة الأمم المتحدة لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية محددة الفترات والتواريخ. غير أن لله تعالى أهدافًا لا يمكن لأي إنسان أن يدركها.
كاتب ليبي