أمل ستبي: الولايات المتحدة اليوم: تراجع القوة ووعود مفقودة في سياق النكبة 2025

أمل ستبي
الملخص:
في الذكرى الـ77 للنكبة، تتجلى بوضوح مظاهر تراجع الدور الأمريكي عالميًا، وتكشف المواقف الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب حجم الانفصال بين الشعارات والواقع. تصريحات تُجمّل القبيح، ومواقف تُسوّق للأمل، لكنها تخفي بين سطورها أجندة مصالح تجارية واستثمارية بحتة. في المقابل، يتواصل خذلان أنظمة عربية، خصوصًا مصر والسعودية، للقضية الفلسطينية، في حين يثبت الشعب الفلسطيني، وخاصة في غزة، أنه الرقم الصعب الذي لا ينكسر. من بين ركام العدوان، وصمت المتواطئين، تولد مقاومة تكتب التاريخ بلحمها ودمها، في عالمٍ يتجه بثبات إلى ما بعد الهيمنة الأمريكية.
أولًا: أمريكا التي لم تعد عظيمة
منذ نهاية الحرب الباردة، تموضعت الولايات المتحدة باعتبارها القوة الأحادية المهيمنة على النظام العالمي. لكن تلك الحقبة بدأت تنحسر تدريجيًا مع دخول العالم مرحلة جديدة تتسم بالتعددية القطبية، حيث برزت قوى أخرى تتحدى الهيمنة الأمريكية.
في عام 2025، تبدو واشنطن أكثر ضعفًا من أي وقت مضى: دين عام تجاوز 34 تريليون دولار، استقطاب داخلي خانق، انحسار في النفوذ الدبلوماسي، وإخفاقات في ملفات دولية كأفغانستان وأوكرانيا وفلسطين.
حتى حلفاؤها التقليديون في أوروبا بدأوا يتململون من التبعية لسياسات واشنطن، التي باتت تقود العالم من موقع المرتبك لا القائد. الفوضى التي عمّت المنطقة العربية، من سوريا إلى فلسطين، هي شهادة دامغة على فشل الرؤية الأمريكية للشرق الأوسط، تلك التي استندت إلى “الفوضى الخلاقة” و”صفقات القرن” بدلًا من العدالة والاستقرار الحقيقي.
ثانيًا: ترامب… رجل صفقات لا رجل مبادئ
لم يكن دونالد ترامب، لا في ولايته الأولى ولا في جولته الحالية، مهتمًا فعليًا بالقيم أو المبادئ التي تتشدق بها واشنطن. فهو رجل صفقات، وتاجر في سوق السياسة العالمية.
تصريحه الأخير في منتدى الرياض بأن “أهالي غزة يستحقون مستقبلًا أفضل” بدا للبعض انفراجة، لكنه في جوهره لم يكن إلا جزءًا من حملة علاقات عامة تسويقية، تهدف إلى تلميع صورته، وضمان صفقات جديدة مع الخليج.
لن ينسى الفلسطينيون أن ترامب هو من شرّع الاحتلال أكثر مما فعله أي رئيس أمريكي قبله: اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، شرعن المستوطنات، قطع تمويل الأونروا، ودعم صفقة القرن التي تُجهز فعليًا على حلم الدولة الفلسطينية.
إن الحديث عن مستقبلٍ أفضل من على منابر الاستثمار، بينما تُقصَف غزة يوميًا، ليس فقط نفاقًا سياسيًا، بل تجسيد لموت الضمير الأخلاقي لدى من يتصدرون العالم باسم “الحرية والديمقراطية”.
ثالثًا: مصر والسعودية… بين الحياد المخادع والدور الغائب
الموقف الرسمي المصري من تصريحات ترامب كان صادمًا، إذ عبّرت القاهرة عن “ثقتها في جهوده لتحقيق السلام”. لكن أي سلام يقوده من كان راعيًا للاعتداءات الإسرائيلية المتكررة؟
مصر التي كانت يومًا مركز دعمٍ للمقاومة، باتت اليوم تلعب دور الوسيط “الحيادي”، بين جلاد محتلّ وشعب أعزل. هذا الحياد المزعوم هو خذلانٌ في حقيقته.
أما السعودية، فتمضي في مسار تطبيعي هادئ يتستر تحت غطاء الاستثمارات والانفتاح. الرياض التي تقود قممًا اقتصادية، غابت عن قيادة موقف حقيقي يدافع عن المقدسات في القدس، ويدفع باتجاه إنهاء الحصار على غزة.
في لحظات الضعف الأمريكي، كان يُفترض بالعرب أن يتحركوا، أن يملأوا الفراغ بقيادة نزيهة تُعيد الاعتبار للحق الفلسطيني، لكنهم، وللأسف، فضّلوا الصمت، أو المشاركة في صفقات لا تعود بالنفع سوى على العروش والمصالح الضيقة.
رابعًا: غزة… عنوان الكرامة والبطولة
رغم كل شيء، تبقى غزة أيقونة الصمود. على مدى 17 عامًا من الحصار، لم ترفع غزة الراية البيضاء، بل قدّمت التضحيات تلو التضحيات، وأثبتت أن الشعوب لا تُهزم متى امتلكت الإرادة.
في كل عدوان، يسقط الشهداء، تُدمّر البنية التحتية، تنقطع الكهرباء والماء، لكن الحياة تعود.
أهل غزة لا يقاتلون فقط من أجل أرضهم، بل عن كرامة أمة بأكملها. شعارهم “من البحر إلى النهر، فلسطين لنا” ليس أمنية، بل مشروع تحرري لا يزال ينبض بالحياة رغم كل محاولات الطمس.
خامسًا: عالم يتغير… والهيمنة الأمريكية إلى زوال
العالم اليوم يشهد إعادة ترتيب غير مسبوقة لموازين القوى. لم تعد أمريكا وحدها في الساحة. الصين تبني مشروعًا عالميًا بديلًا عبر “الحزام والطريق”، وروسيا تعزز تحالفاتها، وإيران وتركيا تتحركان بثقة في مساحات كانت محرّمة سابقًا.
هذا التحول يعني شيئًا مهمًا للفلسطينيين: أن من كان يملك الفيتو على مصيرهم لم يعد بهذه القوة.
الفلسطينيون، الذين عاشوا عقودًا من التهميش بفعل الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل، بات بإمكانهم اليوم مخاطبة عواصم جديدة، وطرق أبواب لم تعد موصدة كما في السابق.
سادسًا: العرب… بين التخاذل والمراجعة المطلوبة
ما جرى من تطبيع وتنسيق أمني وتجاري مع الاحتلال خلال السنوات الماضية، هو وصمة عار في جبين بعض الأنظمة العربية.
لا يمكن الحديث عن فلسطين، ولا عن العدالة، ما دامت العواصم العربية الكبرى تعتبر إسرائيل “شريكًا استراتيجيًا”، لا محتلًا غاصبًا.
لكن الشعوب العربية لم تستسلم بعد. مظاهرات الدعم لغزة في العواصم العربية والغربية، حملات المقاطعة، الضغط الشعبي على حكومات التطبيع، كلها مؤشرات على أن الضمير العربي لا يزال حيًا، وينتظر قيادة صادقة تُعيد الاعتبار للقضية.
الخاتمة: فلسطين من البحر إلى النهر… وعد لا يموت
في ذكرى النكبة 77، آن الأوان لأن نسمّي الأشياء بأسمائها. أمريكا لا تملك مفاتيح الحل، بل هي أصل المشكلة. ترامب ليس وسيطًا، بل طرف في العدوان.
العرب مطالبون بمراجعة جذرية، والخروج من وهم التسويات الخادعة.
أما فلسطين، فتبقى بوصلتنا. غزة تقاوم، القدس تنادي، واللاجئون يتمسكون بالمفتاح.
في عالم يتغيّر، الحق لا يتغير. وفلسطين، من البحر إلى النهر، ستبقى لنا.
كاتبة تونسية