مصطفى عبد الفتاح: سمات الغربة والاغتراب في رسائل روز شعبان من خلال كتاب “وطن على شراع الذاكرة”

مصطفى عبد الفتاح
إتَّخذت روز شعبان وعمر كتمتو أدب الرّسائل وسيلة للتَّعبير عن مشاعر الغربة في الوطن في حالة روز اليوسف شعبان، والاغتراب القسري عن الوطن في حالة عمر كتمتو ، وهي وسيلة أدبية رائعة للغوص في أعماق النَّفس البشرية والتّعرّف على الألم والمعاناة النّفسية والإنسانيَّة ألَّتي يعيشها المغترب بعيدًا قسرًا عن الوطن والمغترب في وطنه، أي البعيد عن أرضه وإرثه الحضاري وقريته المهجرة على مرمى حجر منه، وقد استطاع الإثنان من خلال الرّسائل إدخال القارئ في دهاليز فكر المغترب والعيش ولو للحظات مع هذه الأرواح المعذَّبة والنّفوس التي تتوق للحياة في ظل ماضيها أو على تراب وطنها بعيدًا عن التَّشرد وألم الفراق.
أدب الرَّسائل الَّذي اختاره الإثنان للتَّعبير عن لواعج نفسيهما، من أقدم الأشكال الأدبيّة للتّعبير عن الأفكار والمشاعر بأسلوب مباشر، من أهم مميزاته أنَّه شخصي وعاطفي، فيه الكثير من العفويّة في الطّرح مع عمق فكري، يوثق لأحداث لها تأثير عميق على حياة الكاتب وربما المُتلقي بصدق وعفوية. رسائل الغربة والإغتراب يعبِّر فيها المُغترب عن معاناته وهو بعيد عن الوطن ويحمل في طيّاتها الحنين والحزن والأمل وأحيانًا اليأس، يعبِّر من خلالها عن الحنين للوطن، وعن الإحساس بالعزلة في مجتمعه الجديد، وتحمل الكثير من الأمل وروح التّحدي والسّعي للعودة أو التّأثير في الوطن ولو عن بعد، وهي تعكس أيضًا تجربة الاغتراب بكلّ أبعادها النّفسية والاجتماعية والسّياسيّة .
قد تحمل هذه الرّسائل عنوانًا واحدًا لجميعها كما هو حاصل في هذه المجموعة” وطن على شراع الذّاكرة ” أي أساسها الغربة في الوطن وخارجه والحنين الدّائم للعودة إليه.
ليست فقط العلاقة الأدبيّة كشعراء ومهتمين بالأدب هي التي جمعت بين الشاعرين ولكن الغربة والاغتراب والحنين إلى الجذور هي العامل الأوَّل الذي جمعهما وهذا ما يبدو جليًا في أدبيهما شعرًا ونثرًا، ومن يتابع أدب روز اليوسف شعبان الحطينية الهوى” فعائلة زوجها تنتمي إلى حطين”وحطين عرفها التّاريخ بمعركتها وتاريخها العريق أثناء الحروب الصليبية على فلسطين، يشعر القارئ بهذا الحنين الثّابت في روحها، في أدب الأطفال والشعر وحتى في كتابها الأخير الذي خصصته عن المنفى والاغتراب في روايات غالب هلسا، وهو رسالة الدكتوراة لروز حيث تخصّص مساحة واسعة جدًا تعالج فيه مصطلح الاغتراب في الأدب بشكل عام وعند هلسا بشكل خاص. وبالمقابل شاعر مرهف هُجِّر ونُفي من الوطن ورغم السّنين الطّويلة من الانتظار ما زال الحنين يسيطر على ملامح أدبه إنَّه الشّاعر عمر كتمتو الشّاعر العكّي المغترب، له العديد من المؤلفات الشعريّة منها “نداءآت إلى صقر قريش” ومسرحيّة ” بيت ليس لنا” وهي مهداة إلى روح صديقه الشَّهيد غسَّان كنفاني وفي جميعها يبدو الاغتراب والحنين واضحًا في كتاباته وهو الَّذي يملأ قلبه بالحنين إلى عكا وإلى الوطن وأحلامه بالعودة، فيلتقي الشاعران في رسائل يحاول أحدهما أن يكمّل الآخر أو ليكوِّنا معًا الشَّخصية الفلسطينية المعذَّبة والمحرومة مِن الوَطن بفعل النَّكبة، أو لعلّهما يخففان عن كاهليهما ألم الحنين، ولواعج النَّفس في الغربة وحتى في الوطن، فيرسما معًا صورة الفلسطيني في نكبته ومعاناته، وفي العمق فإنَّ كلّ واحد منهما يراسل الآخر ليخفّف عن نفسه أولًا، أو ليعبِّر عن لواعج نفسه أمام الآخر، فيخاطبه وكأنه يحادث نفسه، هذه الصورة الأدبية الجمالية تبدو واضحة في معظم الرسائل بين الاثنين إن لم يكن كلِّها.
خصّصت روز شعبان الكثير من جهدها لابراز الغربة والاغتراب في أدبها، وهي شاعرة وكاتبة فلسطينية نشيطة ومجتهدة ومثابرة في رسم ملامح شخصيتها الأدبية والوطنية، من قرية طرعان الجليلية، تحمل روز شهادة الدكتوراة في اللغة العربية وآدابها من جامعة تل ابيب، تتميز بإسهاماتها في مجالات الشّعر وأدب الأطفال. أصدرت ديوانها الأول “أحلام السّنابل” عام 2020 ومن ثم “اشواق تشرين” ، يميز شعرها انسانيته ووطنيتة وهو معبر عن مشاعر الاغتراب والأمل. كما أصدرت كتب أطفال بنفس الروح ومنها “مفتاح جدتي” و ” برتقال يافا” تركّز فيها على الوعي الوطني والانتماء لدى الأطفال، بأسلوب سلس ولغة مشوقة.
على عتبة النّص الأولى وبالعودة إلى كتابها المشترك مع عمر كتمتو، “وطن على شراع الذّاكرة” نكتشف من العنوان مفهوم الغربة والحنين، فالوطن هو الثّابت الوحيد الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل مهما طال الزّمان أو تغير المكان، بل هو ليس بحاجة ل- أل التّعريف فلم نكتب الوطن بل وطن، والشراع إشارة إلى السّفينة المسافرة في أعماق البحار البعيدة عن الوطن وكأنَّ الشّراع هو الذي يحمل راية الغربة ويحلم بالعودة ويؤكد ذلك صورة السفينة تلاطم أمواج البحر العاتية، والذاكرة هي مخزن الذكريات، ومصدر الحنين الذي تحمله الرّوح والنّفس والعقل أينما رحلوا، نعلقه على الشراع علّه يعيدنا إلى الوطن فتكتمل صورة الحنين وأمل العودة رغم أمواج البحر العاتية.
يكتمل المشهد بالإهداء الذي يختارانه للكتاب كتأكيد على الهدف من هذه الرّسائل الأدبية التي تشد القارئ وتشعل جذوة الحنين للعودة إلى الوطن تكتب ” إلى جميع المغتربين والمهجَّرين عن أوطانهم عامّة، وإلى المغتربين والمهجّرين الفلسطينيين خاصّة، الَّذين عانوا مرارة المنفى وقساوة الاغتراب، فحملوا مفاتيحهم في صدورهم، رسّخوا صور الوطن في ذاكرتهم علّها تمدهم بالأمل كلّما ألهب الشّوق والحنين قلوبهم ولوّعت أفئدتهم مرارة المنفى.” ص3
“في كتابها المنفى والاغتراب في روايات غالب هلسا تقتبس روز اليوسف شعبان مما كتبه محمود، صفاء عن أهمية دور المكان والزَّمان في رسم المشهد الأدبي أو الروائي ألمنوي الحديث عنه، وهو أي الزمان والمكان من يعطي للحدث وللشخصيات مكانتها ودورها في الرواية تقول: ” تعد علاقة المكان مع الزّمن علاقة وطيدة أيضًا، إذ انَّ الزّمن والمكان أصبحا جزءًا من الفضاء السّردي عامّة، والروائي خاصّة كما هو شأنهما في الفضاء الواقعي، فلم يعد ممكنًا أن تتخيل فضاء الرّواية من دون تخيّل الزّمن الذي ينبني من خلاله فالزّمن أصبح البعد الرابع للمكان، ما يعني أنَّ حضور أحدهما يلزم بالضرورة حضور الآخر.” ص 44.
تبدأ روز رسائلها إلى عمر “بنداء البحر” وكأنَّها تريد أن تؤكد لنا أنَّ الثّابت الوحيد الباقي والذي لم يتغيّر في الوطن هو البحر بهديره وأمواجه ورماله وإحتضانه لعكّا بل هو من حافظ على صورتها وعلى أسوارها عبر الزّمن، وتجعله يتكلّم في حوار شيّق عن طفل ارتحل ولم يرحل هُجّر ولم يُغادر وهو سيعود ليس كزائر، بل كمقيم في الوطن، أقول هذا لأني أظن أنَّ روز لم تقصد المغادرة الطّوعية ولا الزّيارة الطّوعية للمغترب حين تقول للبحر “أخبرني أنَّه غادر الوطن، حمل حقيبته الصَّغيرة بيديه ورَحل” ص 6 وفي الصّفحة التّالية تُخاطب البحر” سيزورك أيّها البحر، ستراه قريبًا” ص 7 وكأنَّ الثابت هو المغترب وليس الطفل، هذه الصورة الجمالية العميقة للبحر المغترب الذي يبحث عن أشيائه التي فُقدت واشتاق إليها، وكأنَّها تقول إنَّ الوطن هو الذي اشتاق إلى أهله، صورة مقلوبة في غاية الجمال، رغم استعمال المفردات التي لا تدل على التهجير او على النَّكبة.
نفس الصورة تعود على نفسها في شجرة التين، الَّتي تتحدث إلى الكاتبة بسذاجة، أو بلغة محايدة عندما تقول” كيف لا وقد هجرني الأحبة، تركوا تحت أغصاني ألعابهم وكتبهم المدرسيّة كانوا تحتي يلعبون … فما بالهم غادروني؟ ” ص 10. لترد عليها روز بحزم وبكلام قاطع وجمال الكلام في رمزيّته تقول” تأخذنا الحياة أحيانا دون أن ندري إلى أماكن بعيدة، تقذفنا في المنافي، نتجرّع حسرة الفقدان، ومرارة الاغتراب، لكنَّنا لا ننسى” ص 10
تبدو جليًا صورة الاغتراب في رسائل روز اليوسف إلى عمر، بل وتصرّح بذلك في كتاباتها ففي رسالتها بعنوان “إغتراب في الوطن” تكتب روز “توفي عمي وصورة حطين راقدة في عينيه وقلبه” ص 97 وتستطرد في نفس العنوان لتقول” هكذا ترى يا صديقي أنَّك لست المغترب الوحيد، فعائلة زوجي عاشت الاغتراب داخل الوطن، وأحسّت بلوعة فراق الأحباب والأقارب، وكم رأيت الدموع في عيني حماتي رحمها الله وهي تذكر أهلها البعيدين عنها…” هكذا كُتب علينا أن نعيش الاغتراب بشتى أشكاله غربة مكانية، اجتماعية، سياسية وغيرها” ص 98. وكأنَّ روز تلخّص بهذا رؤيتها للاغتراب بكل مسمياته، وتقرر في رسالتها الأخيرة شعرًا :
“ليس المنفى كالوطن
الوطن إنبلاج الفجر فوق الحقول
رقصة الشَّمس في آب وأيلول
مرح الأطفال بين الزّهور
الوطن عودة الفرح في تشارين
وقبلة الفجر في ثغور الياسمين ” ص 109″.
هكذا تتبدّل الصّور والمشاهد من الوطن، لتؤكد صورة الاغتراب بل والتَّماهي مع الاغتراب عند عمر كتمتو، وهي تؤكد نفس الصورة واحيانًا تصل إلى ذروة شامخة في وصف الغربة والاغتراب وما يعانيه الانسان الفلسطيني في الوطن وخارجه، ومن هذه الصّور الجميلة التي رسمتها روز في “وطني ليس حقيبة سفر وانا لست مسافرًا” والعنوان مقتبس من محمود درويش تقول: “هنا كانت جدّتي وجدّتك تسقيان أحواض الحبق والنّعناع، تعقدان المنديل على رأسيهما تشمّران عن سواعدهما وتزرعان كروم الزيتون والعنب والرمَّان” ص 15 وبعدها وفي نفس الرسالة تقول: ” يرانا البحر فيبتسم، ويدعونا لنعتلي عبابه ونبحر، وتارة يأخذنا إلى عتمات نفوسنا، فنرى أشجار الزيتون تصرخ وتستغيث ألمًا، وسنابل القمح تنحني قهرًا وذلًا، فتنطفئ الأنوار في البيوت وتوصد بمفاتيحها الأبواب، تتطاير الثياب المنشورة على أسطح المنازل، تصلنا آهات المشردين، وبكاء الأرامل والمقهورين” ص 15 . هكذا ترسم لنا روز وعمر صورة متكاملة الأجزاء عن جرح الوطن ومعاناة الفلسطيني المغترب دائمًا في الوطن وخارجه، شكرًا للكاتبين على روعة الوصف وجمال الأدب في الرّسائل، وشكر خاص لروز شعبان على الإهداء.
مواسي، عليّ – الثقافة الفلسطينية في أراضي 48، مدار المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، رام الله، 2018
عمر كتمتو وروز شعبان، وطن على شراع الذاكرة، دار الاسوار، عكا ، 2022
شعبان، روز اليوسف، المنفى والاغتراب في روايات غالب هلسا، دار الهدى للنشر والتوزيع، كفر قرع، 2024.
نشرت في مجلة شذى الكرمل
العدد الأول اذار 2025
السنة الحادية عشرة، ص 30 – 35