كيف أغفل ترامب مصر تمامًا خلال زيارته لثلاث دول خليجية، وما السبب وراء ذلك؟ وهل ستصل استراتيجية التفتيت العرقي والطائفي، التي بدأت في سوريا، إلى مصر أيضًا؟ وما هي الإجراءات المقترحة للتعامل مع هذه القضية؟

عبد الباري عطوان
اختار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المملكة العربية السعودية ودولتين خليجيتين أخريين هما قطر والامارات العربية المتحدة لكي تكون فاتحة زياراته الخارجية بعد فوزه بانتخابات الرئاسية وهذا أمر مفهوم، فالرجل يسعى للتريليونات لإنقاذ اقتصاد بلاده من الانهيار بفعل الديّن العام المتصاعد بأرقام فلكية، لكن الانطباع الأول الذي يمكن استخلاصه من بين ثنايا هذه الزيارة، ان ترامب، لا يعير أي اهتمام للدولة العربية المركزية في المشرق العربي، ونحن نتحدث هنا تحديدا عن كل من مصر والعراق، وتهميش الأولى (مصر) خاصة.
صحيح ان أوضاع البلدين السياسية والاقتصادية ليست وردية في الوقت الراهن، ولا تمت بصلة لإرثهما الحضاري الذي يمتد لأكثر من 8000 عام على الأقل، وتتحمل الولايات المتحدة الامريكية المسؤولية الأكبر بإيصالهما الى هذا الوضع المأساوي، سواء بجر الاولى (مصر) الى اتفاقات كامب ديفيد، وتقزيم دورها بشقيه العربي والدولي، واغراقها في الديون، او بغزو الثانية واحتلالها، ونزع سلاحها وتدمير طموحاتها النووية، وقدراتها الدفاعية، وتقسيمها على أسس طائفية وعرقية، ولكن الصحيح أيضا، ان هذه النكسة عابرة، ولن تدوم، وستأتي الصحوة حتما وتغير هذه الأوضاع الكارثية الراهنة.
الرئيس ترامب تعمد تهميش مصر ودورها الإقليمي ومكانتها الدولية، وفك ارتباطها بمنطقة الخليج العربي الغنية بالنفط والغاز والعوائد المالية الضخمة، وكان لافتا انه، وعلى عكس ما حدث اثناء زيارة الرئيس الصيني للرياض في كانون اول (ديسمبر) عام 2022، لم يتم توجيه الدعوة لا للرئيس المصري ولا للعاهل الأردني لحضور مؤتمر القمة الذي انعقد على هامش هذه الزيارة، الأمر الذي أثار غضب الدول الثلاث، وانعكس في ردها بعقد مؤتمر ثلاثي لوزراء خارجيتها (العراق، مصر، الأردن) في رد غير مباشر على عملية التهميش المتعمد.
***
الأمر المؤكد ان القيادة المصرية تراقب عن كثب كيف تتدفق التريليونات، وليس المليارات فقط، مثل الهبل على الرئيس الأمريكي الزائر، بينما هي، ودول عربية عديدة غارقة في الديون واهانات صندوق النقد الدولي، وتواجه ضغوطات كثيرة للحصول على ملايين كقروض وليس مساعدات.
العلاقات بين السلطات المصرية، والرئيس ترامب وحكومته ليست على ما يرام، وهذا ما يفسر هذا التجاهل، وربما يكون مرد ذلك رفض الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تلبية دعوته، لزيارة البيت الأبيض، ويجلس امامه منكسا رأسه، وهو يتلقى الاهانات مثلما حصل في مع زيلينسكي للرضوخ لإملاءاته بإخلاء قطاع غزة من مليونين من سكانه، وتهجيرهم الى مصر والأردن، لتحويله (القطاع) الى ريفيرا الشرق الأوسط تديره عصابة سماسرة العقارات الامريكية والصهيونية، وتقاسم المردود المالي الذي قد يصل الى تريليون دولار، ان لم يكن أكثر.
تهميش أمريكا لمصر لم يقتصر على تجاهلها كليا في جولة ترامب الحالية المنحصرة في ثلاث دول خليجية، وانما في مطالبة ترامب لمصر، وبكل وقاحة، بعدم فرض أي رسوم على السفن الامريكية العابرة لقناة السويس، تجارية كانت، او عسكرية، بذريعة ان أمريكا هي التي أفشلت العدوان الثلاثي عام 1956.
الرئيس باراك أوباما الذي يشكل عقدة نفسية لترامب، كان رجلا مثقفا ويملك خبرة اكاديمية عالية جدا، واحداها تحرير المجلة التي تصدرها كلية الحقوق الشهيرة في جامعة هارفارد، ولذلك إختار ان تكون القاهرة اول محطة خارجية له، واتخذ من منبر جامعتها منصة له لمخاطبة العالمين العربي والإسلامي، أما الرئيس ترامب الذي ينحصر إرثه، وأسرته في المتاجرة بالمحرمات وأبرزها كازينوهات قمار، فبوصلته لا تؤشر الا نحو المال وكيفية جمعه بكل الطرق بدءا بالابتزاز، وانتهاء بالترهيب والاغتصاب والتهديد، ومن المؤسف انه يحلم بالحصول على جائزة نوبل للسلام، وهو الملطخة يديه بالدماء.
هذا التهميش الأمريكي لمصر قد يتطور بشكل متسارع في الأسابيع والاشهر المقبلة، ويتخذ اشكالا عنيفة، على رأسها محاولة فرض تهجير أبناء القطاع الى صحراء سيناء بالقوة بتشجيع دولة الاحتلال الإسرائيلي ودعمها، وما تدمير مدينة رفح المحاذية للحدود المصرية، تمهيدا لتجميع أبناء القطاع في خيام على انقاضها، لتسهيل التهجير القسري الى الأرضي المصرية المحاذية، ولم يكن من قبيل الصدفة تسريب إسرائيل معلومات تؤكد ان اللواء عباس كامل قائد المخابرات المصرية السابق كان على علم مسبق بهجوم “طوفان الأقصى” الذي شنته كتائب القسام الحمساوية، ولهذا تم عزله من منصبه بطريقة مفاجئة وغامضة.
عندما تعارض السلطات المصرية عملية تهجير أبناء غزة الى صحراء سيناء بالقوة فهي تنطلق هنا من إدراكها للمخاطر القومية المترتبة على القضية الفلسطينية أولا، وعلى الأمن القومي المصري ثانيا، من حيث عزل سيناء عن الوطن المصري، وإقامة دولة فلسطينية فيها، فعدد سكان سيناء التي تبلغ مساحتها خمسة أضعاف مساحة قطاع غزة او أكثر، لا يزيد عن 360 الف نسمة، بينما يزيد عدد المهجرين المحتملين من القطاع اكثر من مليونين ونصف المليون، ومن غير المستبعد ان تتم مضاعفتهم بترحيل مليونين او أكثر من الضفة الغربية الى هذه الدولة المفترضة.
***
الرد المصري المطلوب، وبأسرع وقت ممكن، على هذا التهميش وما يمكن ان يترتب عليه من أخطار لاحقا، ليس بالحصول على أسلحة متطورة بديلة من الصين فقط، وانما بإستعادة الدور المصري في قيادة محور المواجهة للاحتلال الإسرائيلي، والخروج من اتفاقات كامب ديفيد والالتزامات المترتبة عليها، خاصة بعد ان انتهكتها دولة الاحتلال بإقتحام القطاع، وارتكاب حرب الإبادة فيه، والسيطرة على محور صلاح الدين (فيلادلفيا)، والاهم من كل ما تقدم تحقيق المصالحة الوطنية.
المؤسسة العسكرية المصرية يجب ان تتحرك بسرعة وتعيد لمصر هيبتها وريادتها بالتصدي لهذه العربدة الإسرائيلية فورا ودون أي تأخير، وقبل ان تتعرض البلد للتقسيم والتفتيت وفق استراتيجية أمريكية إسرائيلية مشتركة عمودها الفقري “تثوير” الأقليات على أسس طائفية وعرقية، ونشاهد ارهاصاتها الأولية في سورية، ولبنان، والسودان، وربما ايران والعراق قريبا أيضا.
بدأوا بغزو العراق، ومحاولة تدمير محور المقاومة في لبنان، وغزة، واليمن، وعزلوا المغرب العربي عن مشرقه واختراق بعض دوله إسرائيليا، وإعادة العنف الى ليبيا، والآن تقترب النار من ذيل الثوب المصري.. والأيام بيننا.