عزيز أشيبان: تحليل لمذكرات الطالبة تارا ويستوفر

عزيز أشيبان
في قلب بيئة محافظة متدينة حيث التماسك الأسري وقداسة الانتماء الروحي وعلو سلطة الأب والأخ الأكبر، ترى الفتاة تارا النور وتترعرع في بيئة مطوقة بثقل البنيات الثقافية والذهنية والنفسية المتوارثة والصامدة أمام الفكر الليبرالي وزحف الرأسمالية في قلب الولايات المتحدة الأمريكية. تقاتل الفتاة تارا الغير متعلمة من أجل إثبات الذات وفرض الوجود وعدم الاستسلام التلقائي لنداء تكرار تجربة الأم الخاضعة للأب و المنزوية وراء الستار وتظفر بتحقيق طموح الحصول على شهادة الدكتوراه.
شخصية الأب المحورية في الأسرة
هو الممول الرئيسي للأسرة، القائم على كل التفاصيل، المشرع للقانون والمشرف على تنفيذه، مصدر الوعظ العقائدي والقيم وأسرار الحياة. نتحدث عن شخصية تبدي الممانعة من خلال اشتغال نعرات التصلب في الرأي والعناد وجلافة وغلظة الطبع، لا يثق في الحكومة ومؤسسات الدولة و يؤمن بنظرية المؤامرة، يمتنع عن إرسال أبنائه إلى المدرسة “التربية النظامية” بدافع حمايتهم من عمليات غسل الدماغ و التدجين و تتكفل الزوجة بتعليمهم في البيت وفق ما يحدده من برنامج ورؤية. كما لا يعتاد المستشفى إذ يعتبرها تحايلا على إرادة الرب سلطة القدرو متاجرة في صحة الناس.
نحن بصدد شخصية محافظة لا تعرف النقد، تؤمن باليقينيات وتنغمس بإخلاص في ممارستها وتصريفها للأبناء دون إعمال الحس النقدي أو العقل التحليلي لوأد أية محاولة تصبو إلى التمرد على بعض تفاصيل الموروث الثقافي. ما يزيد الأمر تعقيدا بالنسبة للفتاة تارا هو معاناة الأب من اضطراب ثنائي القطب ومن بارانويا وتحكمه في مصير جميع أفراد الأسرة.
شخصية الأم
شخصية تستقر في ظل شخصية الأب لكن بذخيرة قوية وملكات استثنائية، حيث تنهض بالواجبات المنزلية وتمريض الأبناء عند الضرورة وتشتغل في توليد النساء بمعية خبرة اكتسبتها من مصاحبتها لإحدى السيدات. تتفوق بعد ذلك في إنجاز مشروع لإنتاج وتسويق مواد طبيعية للاستشفاء. غير أن مواقفها تظل متذبذبة وآنية وغير قارة لا تجرؤ على الحسم أو الاعتراض أو مناصرة الحق رغم يقينها التام بحقيقة الأمر و تفتقد للشجاعة لمساندة تارىا الابنة المتمردة في عدة مواقف في انحياز كامل إلى مواقف الأب والابن الأكبر حفاظا على التماسك الأسري المتهالك آجلا أم عاجلا. تستأثر التضحية بمقدرات شخصيتها الاستثنائية وقدراتها الرهيبة في انصياع تام للموروث الثقافي وتقديس للوضع القائم.
رحلة إبراز الذات
تتخلل مذكرات المتعلمة تجارب حياتية قيمة ترجو بناء الذات وإغناء رأسمالها البشري من أجل الخوض في محاولات تحقيق الطموحات والأهداف. يحيل محتوى الكتاب ضمنيا على تجربة تدبير الصراعات الداخلية اللامتناهية التي تنهك الذات و تستنزف طاقاتها سعيا وراء تحقيق التوازن الذاتي وعقلنة السلوك وضبط ردود الفعل من قبيل : الشعور واللاشعور، الخير والشر، حب الذات وجلدها، اليأس والأمل، و الاندفاع والتريث. تهم التجربة الثانية ضرورة مراجعة الذات وقراءة مخرجات سلوكها و مبادراتها من أجل إعادة ترتيب تصوراتها و أنساقها الفكرية وقناعاتها. تبدو أن هذه التجربة تدخل في مقاربة الرحلة الدائمة والمستمرة للتعرف على الذات واكتشاف مكنون ملكاتها وطاقاتها انطلاقا من التحلي بشجاعة المواجهة وتلقي الصدمات ومجابهة الأوهام.
بناء الوعي الذاتي
تشرع الفتاة تارا في بناء ملكوت وعيها الذاتي من خلال قوة الملاحظة والإقبال على طرح السؤال والاسترسال في النقد الذاتي والتشييد للعقل التحليلي معلنة تلقائيا التمرد على اليقينيات واستفزاز اللامفكر فيه وعرضه للمساءلة والتمحيص والسعي نحو تملك حق اتخاذ القرار.
من المؤكد أنه من الصعب الخوض في تجربة فردية لبناء الوعي الذاتي في قلب أسرة محافظة تعتمد على التلقين والشحن والإملاءات قد يحظى كل من يتجرأ التمرد عليها بمصير الطرد من العائلة واللعنة الأبدية. ثمة صراع رهيب بين الأنساق الفكرية النامية مع الأنساق الفكرية القائمة منذ زمن سحيق.
تستطيع الفتاة تارا ولوج التربية النظامية والالتحاق بالجامعة وتجاوز مجموعة من العوائق دون استسلام: العائق المادي المتمثل في مصدر تمويل دراستها، العائق المعرفي المتعلق في النقص المعرفي المهول بخصوص مجموعة من المواد الأكاديمية، العائق النفسي والذهني (تجربة غير مرحب بها في الوسط العائلي ولا تحظى بالتحفيز)، العنف الأسري خصوصا من طرف الأخ الأكبر الذي يعاني من اضطرابات عقلية بعد حادثة سير.
الثقة في النفس النامية
مع مرور الأيام وتراكم التجارب و التحصيل المعرفي تزداد الثقة في النفس وتنمو وتترسخ القناعات الشخصية خصوصا بإجراء القطيعة مع عقيدة الأب وأفكاره المتطرفة و تنخرط الفتاة في بناء الرؤية المستقبلية الخاصة بها في غيابات الشك والتيهان والإحساس بالضياع والعزلة.
أسئلة للتدبر
تطرح المذكرات مجموعة من الأسئلة وتدعو القارئ إلى الانخراط في عمليات التدبر والتفكر بغض النظر عن انتمائه العرقي أو الديني أو الطائفي مادامت تخص المشترك الإنساني من مخاوف وطموحات وعوائق. من بين الأسئلة المفصلية نقترح ما يلي: الفواصل بين الخضوع وطاعة الوالدين، الاحترام والخنوع، التبعية للأسرة و طموح الاستقلال الذاتي، الطموح والرضا، توفير الحماية والشطط في استعمال السلطة، الوهم والحقيقة، الكفاح والاستسلام.
(كاتب مغربي)